اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > أبي وآينشتاين وفاينمان.. استذكارات من حياة الفيزيائي موراي غيلمان

أبي وآينشتاين وفاينمان.. استذكارات من حياة الفيزيائي موراي غيلمان

نشر في: 27 يوليو, 2021: 11:21 م

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

موراي غيلمان( Murray Gell-Mann 1929 – 2019) عالم فيزياء أمريكي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969 لعمله في نظرية الجسيمات الأساسية.

عمل لسنوات طويلة أستاذاً للفيزياء في معهد كاليفورنيا التقني Caltech، كما أنه زميلٌ مميز وأحد المساهمين في تأسيس معهد سانتا في Santa Fe Institute الذي يسعى لدراسة ظاهرة التعقيد Complexity والنظم الدينامية المعقّدة والمشتبكة.

الآتي هو أغلب المادة المترجمة المنشورة على موقع Edge.Org الذي يديره جون بروكمان John Brockman المعروف عنه مناداته بالثقافة الثالثة، وقد كتب غيلمان هذه المادة ونشرها في الموقع المذكور بتأريخ 30 يونيو (حزيران) 2003 تحت عنوان:

صناعةُ فيزيائي The Making of a Physicist

ويمكن للراغب في الرجوع إلى أصل المقالة في الموقع المذكور الاستعانة بالرابط الألكتروني التالي:

https://www.edge.org/conversation/murray_gell_mann-the-making-of-a-physicist

المترجمة

 

 

القسم الثاني

دخلتُ مدرسة كولومبيا الثانوية بعدما عُدْنا إلى مانهاتن عام 1937، ومدرسة كولومبيا الثانوية هذه لها تأريخ طويل مشهود له بالتميز والفرادة ؛ فقد تأسست عام 1764 كجزء من كلية كينغز Kings College التي أصبحت فيما بعدُ جامعة كولومبيا ذات الشهرة المدوّية. دخلتُ مدرسة كولومبيا الثانوية بمنحة دراسية كاملة وأنا بعمر الثامنة ؛ لكنّ القائمين على إدارة المدرسة وضعوني في المرحلة السادسة (التي تقترن في التعليم السائد مع عمر الثانية عشرة، المترجمة). كان ذلك آخر عهدي بتجاوز السنوات المدرسية (مايُعرَفُ بنظام التسريع المدرسي، المترجمة) الذي كان شائعاً في ثلاثينيات القرن العشرين ومابعده. بقيتُ طالباً في مدرسة كولومبيا الثانوية لسبع سنوات لاحقات، وكانت تجربتي في الإلتحاق بمدرسة ثانوية خاصة خير عونٍ لي في الالتحاق بكلية جيّدة.

* * * * *

كان محيطنا العائلي بيئة صديقة للعلم ؛ فقد أبدى أخي تكريساً كاملاً نحو الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك، وحاول مااستطاع تعليم نفسه الفيزياء المتقدّمة وبخاصة النسبية العامة لأنّ عشقاً خالصاً تجاه ألبرت آينشتاين إمتلك عقله وقلبه ؛ ومع أنّ أخي لم يبلغ مرتبة الفهم الكامل للنسبية العامة لكنّه في أقلّ تقدير قرأ كتباً عديدة عن هذا المبحث الفيزيائي وعمل جهده لفهم ماقرأ منها. بالمقارنة مع أخي بِنْ لم يكن لديّ ولعٌ مماثلٌ لولعه في العلوم الفيزيائية على الرغم من ولعي بالفلك ؛ فقد كنت مولعاً أعظم الولع بالتأريخ الطبيعي: الأطيار، الفراشات، النباتات المزهِرة، الأشجار،،، إلخ، هذا إلى جانب ولعي اللامحدود بالآثار واللغويات. إنّ كلّ هذه الاهتمامات المعرفية تنطوي على التعقيد Complexity، والتنوّع Diversity، والتطوّر Evolution، وكلها تعتمدُ على وقائع تأريخية محدّدة بمثل ماتعتمدُ على مبادئ أساسية.

عندما حان الوقت أمامي للتسجيل على القبول في جامعة ييل Yale University كان عليّ الإجابة على أسئلة وردت في إستمارة القبول، وكان من تلك الأسئلة – بين أسئلة عديدة أخرى – سؤالٌ عن الموضوع الرئيسي Major Subject الذي أرغب فيه فيما لو تمّ قبولي في الجامعة. لم أكن أتوقّعُ في ذلك الوقت أن يتمّ قبولي في الجامعة لسببين: الأوّل صعوبة متطلبات القبول في جامعة ييل، والثاني أنّ والديّ لم يكن بمستطاعهما المساهمة بأي قدر ممكن في المتطلبات المالية للجامعة في السنة الأولى حتى لو كان في قدرتي الحصول على منحة جامعية كاملة في سنوات لاحقة ؛ لكن برغم ذلك ملأتُ طلب التقديم للجامعة ووجدتُني أمام هذا السؤال الجوهري: ماالموضوع الرئيسي الذي ترغبه في دراستك لو قُبِل طَلَبُك في الإلتحاق بالجامعة؟

ناقشتُ أمر قبولي في جامعة ييل مع أبي الذي سألني:

- ماالذي تنوي التسجيل على دراسته في هذه الجامعة؟

أجبته:

- كلّ مايمتُّ بصلة إلى علم الآثار أو اللغويات، أو الإثنين معاً إن كان هذا ممكناً ؛ لأنني أراني متحمّساً لدراستهما، كما أراني مولعاً بالتأريخ الطبيعي والإستكشافات الطبيعية.

أجابني أبي:

- بُنيّ، ستعاني الشظف في حياتك !

لم يكن صعباً معرفة السبب الكامن وراء إجابة أبي المحبِطة لي ؛ فقد حصل هذا الأمر عام 1944 بعد التجارب المؤلمة لأبي حينما كانت آثار الكساد الكبير لم تزل تفعل مفاعيلها القاسية في عقله: كنّا حينذاك لم نزل نعيشُ عيشة هي إلى الفقر أقرب منها إلى اليُسر بعدما أضطرّ أبي مرغماً على القبول بالعمل أميناً لصندوق المال في مؤسسة مالية بدلاً من العمل في وظيفة أقرب إلى ولعه ومهاراته - في الرياضيات مثلاً – لأنه ماأراد ركوب مركب المخاطرة بتغيير وظائفه وفضّل الإبقاء على مورده المالي مهما كان ضئيلاً. كان قرار أبي يعني أن لامال إحتياطياً بحوزتنا في أي وقت، وبالكاد كان يفي بمتطلبات معيشتنا اليومية.

سألتُ أبي:

- ماالذي تقترحه عليّ إذن؟

أشار إليّ بالهندسة ؛ فما كان منّي سوى أن أجبته:

- أفضّلُ شظف العيش على دراسة الهندسة. لو أنني صمّمتُ أي شيء فسيكون مآله التداعي لامحالة.

وجاءت الوقائع اللاحقة مصداقاً لقناعتي ؛ إذ عندما خضتُ إمتحان المنافسة في سنة لاحقة نصحني المشرفون على الإمتحان بأن أدرس أي شيء باستثناء الهندسة !!

وهنا إقترح أبي عليّ الإقتراح التالي: لماذا لانحاولُ التوفيق بين الأمور المتقاطعة؟ ألاترى أنّ الفيزياء ستكون خياراً مناسباً؟

هنا أشرتُ لأبي أنني سبق لي أن درستُ برنامجاً دراسياً يخصُّ الفيزياء في الدراسة الثانوية، وثبت لي لاحقاً أنّه لم يكن البرنامج الدراسي الأكثر إثارة للملل لي فحسبُ بل كان البرنامج الذي حققتُ فيه أسوأ النتائج الأكاديمية أيضاً. كان علينا في ذلك البرنامج الدراسي السيئ أن نستظهر الأنواع السبعة من الآلات البسيطة، ومن ثمّ نتعلّم بعضاً من النتف البسيطة عن الحرارة، والضوء، والكهربائية، والمغناطيسية، والحركة الموجية، والميكانيك،،، لكنما من غير إشارة إلى أنّ هذه الموضوعات يمكن أن تكون لها علاقة مع بعضها. لم يكن لديّ ولعٌ بأي شكل من الأشكال بدراسة موضوعات على هذه الشاكلة.

قال أبي:

- سيكون الأمر مختلفاً للغاية عندما تدرسُ برامج دراسية متقدّمة في الفيزياء. ستتعلّمُ في الجامعة دروساً في النسبية العامة وميكانيك الكم، وهذه الدروس جميلة، جميلة للغاية.

فكّرتُ حينها أنني قد أسعِدُ في الأقلّ هذا الرجل كبير السن، أبي، ولن يعني الأمر لي كبير فرق لو سجّلتُ على الفيزياء في طلبي للقبول في جامعة ييل. كنتُ أظنّ أنّ معجزة ما لو جعلتني أحظى بالقبول في الجامعة وأحصل على منحة دراسية كاملة فيها فسيكون في مستطاعي دوماً تغيير موضوع دراستي الرئيسي والإنتقال إلى موضوع جديد أرغبه. في نهاية الأمر كنتُ ذا حظ طيب عندما حصلت الموافقة على قبولي في جامعة ييل مع منحة دراسية كاملة.

عندما حللتُ في مدينة نيوهافن New Haven (في ولاية كونكتكت حيث جامعة ييل ، المترجمة) كنتُ أكثر كسلاً من أن أعمد إلى التنقّل بين الموضوعات الدراسية المتاحة لي ؛ لذا وجّهتُ كلّ قدراتي لدراسة المقررات الدراسية الخاصة بالفيزياء، ووجدتُني مأسوراً بموضوعات ميكانيك الكم والنسبية تماماً بالكيفية التي تنبّأ بها أبي، كما وجدتُني منذ تلك السنوات أعمل بكلّ طاقتي المتاحة من أجل الفيزياء وفي نطاق الفيزياء لسنواتٍ كثيرة لاحقة، واليوم إذ أنتمي لمعهد سانتا في Santa Fe Institute أجدُني متشجعاً على العمل في حقول بحثية متعددة ومشتبكة ؛ الأمر الذي أحيا فيّ ولعي القديم في علم الآثار، واللغويات، وموضوعات بحثية أخرى بالإضافة إلى الفيزياء.

* * * * *

أبديتُ في جامعة ييل ولعاً عظيماً بدروس التأريخ، ووجدتُ دروس البروفسور (دنهام) في التأريخ الدستوري الانكليزي مثيرة للغاية، وشعرتُ بالاثارة ذاتها مع محاضرات البروفسور (هاغو هلبورن) في اللغة الألمانية والأدب الألماني وكذلك في التأريخ القروسطي.

أما في الفيزياء فقد كنتُ محظوظاً إلى أبعد الحدود إذ حضرتُ برنامجاً دراسياً أداره البروفسور هنري مارغيناو Henry Margenau الذي أكمل دراسته لنيل شهادة الدكتوراه PH.D في جامعة ييل عام 1929 ؛ ومع أنه لم يحقق الكثير من العمل البحثي في الفيزياء لكنّه كان أستاذاً جامعياً على درجة عالية من التميّز والفرادة. إعتاد البروفسور مارغيناو تدريس مقرر دراسي عن (فلسفة الفيزياء) أيام الثلاثاء والخميس والسبت من كل أسبوع، وفي الساعة العاشرة من كل صباح، ولازال في مستطاعي رؤية ذلك العدد من زملائي الطلبة في درس فلسفة الفيزياء، ومنهم: صديقي هارولد موروفيتز Harold Morowitz الذي أمضى ردحاً غير قليل من الزمن في معهد سانتا في حيث أعمل، كما عمل لعدة سنوات بروفسوراً للفيزياء الحيوية في جامعة ييل، وهناك أيضاً بول ماكريدي Paul MacCready صديقي القريب إلى قلبي، و جورج راثجينس George Rathjens الذي أصبح فيما بعدُ بروفسوراً للعلوم السياسية في معهد ماساتشوستس للتقنية MIT متخصصاً في موضوعة السيطرة على التسلّح.

لم يكن المنهاج الدراسي في فلسفة الفيزياء الذي أداره البروفسور مارغيناو يقصرُ حدوده على الفلسفة فحسب بل كان يتناول موضوعات فيزيائية خالصة مع بعض الإشارة إلى مترتباتها الفلسفية، ومن جانبي كنتُ سعيداً لأبعد الحدود مع هذه الأريحية الفلسفية التي أبداها البروفسور مارغيناو في درسه ذاك لأنّ طريقة عرضه للفيزياء كانت ساحرة لي. إستطاع مارغيناو بمقدرته المميزة تجاوز المخاوف المتأصلة لدى الكثيرين - بفعل تراكم سنوات - بشأن الإنغمار في تعلّم موضوعات فيزيائية متقدّمة، وكنتُ في ذلك الحين في سنتي الدراسية الثانية في حين كان معظم الطلبة الآخرين من السنة الدراسية الأولى، ولم نكن جميعاً حاصلين على تأهيل دراسي جيد في الفيزياء النظرية ؛ إذ كانت موضوعات فيزيائية متقدّمة على شاكلة ميكانيك الكم والنسبية العامة تُعدُّ عقباتٍ صعبة أمامنا من العسير علينا إجتيازها في المستقبل. المأثرة الكبرى للبروفسور مارغيناو أنه جعل كلّ شيء يبدو ميسّراً أمامنا، وهو بعمله هذا فتح مغاليق المستقبل أمامنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملاحق المدى

مقالات ذات صلة

16-04-2024

مثقفون: الجامعة مطالبة بامتلاك رؤية علمية تكفل لها شراكة حقيقية بالمشهد الثقافي

علاء المفرجي تحرص الجامعات الكبرى في العالم على منح قيمة كبيرة للمنجز الثقافي في بلدانها، مثلما تحرص الى تضييف كبار الرموز الثقافية في البلد لإلقاء محاضرات على الطلبة كل في اختصاصه، ولإغناء تجربتهم معرفتهم واكسابهم خبرات مضافة، فضلا على خلق نموذج يستحق ان يقتدى من قبل هؤلاء الطلبة في المستقبل.السؤال الذي توجهنا به لعدد من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram