ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
(لم أقبل في جامعات النخبة ؛ ففكّرتُ حينذاك بوضع حدّ لحياتي وأنا لم أزل بعمر الثامنة عشرة ؛ لكنني فكّرتُ لاحقاً أنّ بمقدوري تجريب الدراسة في MIT ومن ثمّ اللجوء إلى خيار الإنتحار في وقت لاحق إذا ثبت لي أنّ MIT خيار سيئ....)
موراي غيلمان (Murray Gell-Mann 1929 – 2019) عالم فيزياء أمريكي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969 لعمله في نظرية الجسيمات الأساسية. عمل لسنوات طويلة أستاذاً للفيزياء في معهد كاليفورنيا التقني Caltech، كما أنه زميلٌ مميز وأحد المساهمين في تأسيس معهد سانتا في Santa Fe Institute الذي يسعى لدراسة ظاهرة التعقيد Complexity والنظم الدينامية المعقّدة والمشتبكة.
الآتي هو أغلب المادة المترجمة المنشورة على موقع Edge.Org الذي يديره جون بروكمان John Brockman المعروف عنه مناداته بالثقافة الثالثة، وقد كتب غيلمان هذه المادة ونشرها في الموقع المذكور بتأريخ 30 يونيو (حزيران) 2003 تحت عنوان:
صناعةُ فيزيائي The Making of a Physicist
ويمكن للراغب في الرجوع إلى أصل المقالة في الموقع المذكور الإستعانة بالرابط الألكتروني التالي:
https://www.edge.org/conversation/murray_gell_mann-the-making-of-a-physicist
المترجمة
تخرّجتُ عام 1948 من جامعة ييل، ورتّبتُ أموري للتحضير لكي أقْبَلَ في الدراسات العليا في الفيزياء في خريف تلك السنة. كانت نتائج تقديمي لطلبات القبول في الدراسات العليا مخيّبة للآمال إلى أبعد الحدود: قبلتني جامعة هارفارد بشرط عدم تلقّي أية معونة مالية ؛ أما جامعة برينستون فقد أهملت طلبي أصلاً. جامعة ييل التي تخرّجتُ منها في الفيزياء قبلت طلبي للدراسات العليا في الرياضيات وليس في الفيزياء. الجواب الوحيد الذي تلقّيته وكان مشجعاً وأحيا روح الامل فيّ جاءني من قسم الفيزياء في معهد ماساتشوستس للتقنية MIT، وقد أعلِمتُ في الجواب بخبر قبولي في الدراسات العليا لديهم بالإضافة إلى منحي وظيفة مساعدٍ لبروفسور في الفيزياء النظرية إسمه فكتور فايسكوب Victor Weisskopf الذي لم أكن قد سمعتُ به من قبلُ. عندما بحثتُ عنه لاحقاً أخبِرتُ أنه رجل لامع وفيزيائي ممتاز، وأنّ الجميع ينادونه بإسمه المجرّد فيكي. كتب لي البروفسور فايسكوب لاحقاً رسالة مشحونة بالرقة أعلمني فيها بأمله في قبول عرض MIT للدراسة العليا فيه والعمل بمعيّته.
كنتُ حتى ذلك الحين غير متشجّع للإلتحاق بالدراسات العليا في MIT ؛ فقد بدا هذا الخيار متواضعاً بالمقارنة مع خيار الإنضمام إلى جامعات النخبة Ivy League (هذا في تلك الأيام ؛ اما اليوم فقد صار معهد MIT يتربّعُ على قائمة جامعات النخبة الأمريكية والعالمية، المترجمة). فكّرتُ حينذاك بوضع حدّ لحياتي وأنا لم أزل بعمر الثامنة عشرة ؛ لكنني فكّرتُ لاحقاً أنّ بمقدوري تجريب الدراسة في MIT ومن ثمّ اللجوء إلى خيار الإنتحار في وقت لاحق إذا ثبت لي أنّ MIT خيار سيئ في الوقت الذي لن أستطيع فيه القفز إلى خيار الإنتحار ثمّ تجربة الدراسة في MIT. هاتان العمليتان (الإنتحار والدراسة العليا في MIT) هما عمليتان غير تبادليتين Non – Commutative طبقاً للغة التقنية الاصطلاحية المعقدة في الرياضيات والفيزياء.
عندما إلتحقتُ بالدراسات العليا في MIT ذلك الخريف إكتشفتُ فيه مكاناً عظيم الإمتاع، وكان كثرةٌ من زملائي فيه طلاباً حصلوا على تعليمهم الجامعي الأولي في الفيزياء من جامعات النخبة، بالإضافة إلى نخبة ممتازة من البروفسورات المميزين، كما كانت لنا إمكانية الإلتحاق ببرامج دراسية في جامعة هارفرد القريبة من MIT. كان فيكي (البروفسور فايسكوب) إنساناً وعالماً ذا أصالة علمية فذة، وقد تمتّعتُ بالعمل ضمن مجموعة بحثية قريبة منه. أثبت فيكي بالممارسة الحيّة أنّه إنسانٌ رائعٌ عاش حتى بلغ الرابعة والتسعين، وقد حضرتُ مؤخراً محفلاً تأبينياً عُقِد لتخليد ذكراه في MIT. كان الرجل نَبْعَ محبةٍ دافقةٍ لاتنقطع.
كان متوقعاً لي أن أحصل على شهادة الدكتوراه في MIT خلال سنة ونصف ؛ لكنني أجّلتُ كتابة رسالتي للدكتوراه بعد أن أمضيتُ الكثير من الوقت في قراءة أشياء مختلفة على شاكلة ترجمة إيفانز وينتز لِـ (كتاب الموتى التبتي The Tibetan Book of the Dead). أنهيتُ كتابة رسالتي تلك وحصلتُ على شهادة الدكتوراه في يناير (كانون ثاني) 1951 متأخراً سبعة أشهر عن الموعد المحدّد لي.
كان من المفترض أن أشرع في سنة دراسية لمابعد الدكتوراه في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون في سبتمبر (أيلول) عام 1950 ؛ لكنّ التأخير الذي طرأ على تقديمي لرسالة الدكتوراه في ييل جعل سنتي الدراسية في ذلك المعهد تبدأ في يناير (كانون ثاني) عام 1951. كنتُ آنذاك في الحادية والعشرين من العمر، واختيرت لي غرفة تطلُّ على الشارع الذي يفصلُ بين المعهد وجامعة برينستون. كانت الأبحاث الفيزيائية التي تجرى في معهد الدراسات المتقدّمة يطغى عليها الإفراط في السمة الشكلانية Formalism لصياغاتها الرياضياتية، وكانت تلك المقاربة الشكلانية موضع توقير من جانب بعض الفيزيائيين النظريين من أمثال روبرت أوبنهايمرRobert Oppenheimer ، مدير المعهد، الذي أفرط في عشق تلك الصياغات الشكلانية.
كان آينشتاين يعمل في معهد الدراسات المتقدمة حينذاك، واعتاد القدوم إليه بانتظام. كان في مقدوري تبادلُ بعض الكلمات معه ؛ لكنّي في تلك الأوقات لم أكن أودُّ ذلك النوع من الناس الذين يسعون للتقرّب من الشخصيات العظيمة في ميدانها لكي يعرّفوا بأنفسهم ومن ثمّ ينخرطون في حوار معها، وبعد ذلك يحكون تلك التجربة بزهوٍ للآخرين وكلّ مرادهم أن يقولوا لهم « أنا أعرفُ آينشتاين، وقد تكلّمتُ معه،،،،، إلخ « ؛ لذا لم أسعَ للإلتقاء بآينشتاين أو تبادل الحديث معه. لكن لو أتيحت لي هذه الفرصة اليوم فسأتصّرّفُ بطريقة مختلفة تماماً: كنتُ سأسألُ الرجل العجوز عن أفكاره قبل سنوات عدّة عندما تحمّل القبول بعبء البحث الفيزيائي الأعظم على عاتقه منذ عهد نيوتن. يبدو لي أنّ هذا التصرّف كان سيبدو لي اليوم تجربة مثيرة للغاية. إكتفيتُ عام 1951 بأن أقول لآينشتاين كلّما إلتقيته بين حين وآخر في معهد الدراسات المتقدّمة: « صباح الخير «، وكان في المقابل يجيبني بإنكليزية تخالطها الألمانية: « Guten Morning “ أو شيء يقرب من هذه العبارة الترحيبية، وهذا كل شيء.
كان آينشتاين في ذلك الوقت يعملُ على محاولة خلق نظرية مجال موحّدة. كانت الفكرة العامة وراء السعي لبلوغ مثل تلك النظرية فكرة ممتازة ؛ لكنّ المسلك الذي إتبعه آينشتاين كان مقدّراً له أن ينتهي إلى الفشل الذريع. لم يكن آينشتاين يصدّقُ بالأهمية الأساسية لميكانيك الكم، وكانت نظريته التي يسعى إليها قائمة على مبادئ الفيزياء الكلاسيكية فحسب: لم يضع في حسبانه الجسيمات الأولية (مثل الألكترون) آملاً أن تنبثق مثل تلك الجسيمات بطريقة طبيعية من معادلاته، كما أنّ آينشتاين ضمّن مقاربته المجالات الكهرومغناطيسية والجاذبية فقط وتجاهل كلّ القوى الاخرى في الطبيعة مثل التفاعلات النووية القوية والضعيفة. ربما لو كان آينشتاين يعمل على مقاربة بحثية تبدو مشجّعة وقادرة على بلوغ النجاح لمنحني هذا حينئذ دافعاً وجيهاً للحديث معه بشأن موضوعات كثيرة: حياته ورؤيته للعالم وللفيزياء، إلى جانب موضوعات أخرى لم أكن حينها أشعرُ براحة وأنا أفعلها. لم أكن اليوم لأدع فرصة كفرصة لقاء آينشتاين وجهاً لوجه تفلتُ منّي إلى الأبد.
إنّه لأمرٌ مثيرٌ للفضول أنّ عامّة الناس في كلّ مكان في العالم إختاروا آينشتاين مثالاً رمزياً للعظمة في حقل العلم الفيزيائي. من جانبي أرى أنّ هذا الأمر لم يكن من الصواب أن يتخذ هذا الشكل (الفلكلوري) المفرط والمبالغ فيه. آينشتاين عبقري عظيم في حقل الفيزياء النظرية، ويستحقّ كلّ التوقير والتقدير من جانب العامّة ؛ لكنّ بعضاً من جوانب تقديره يكمن في معرفة – ولو الشيء البسيط – من بحوثه الفيزيائية بدلاً من التقدير الأعمى مثلما يفعل العامّة مع النجوم السينمائيين والمسرحيين والرياضيين.
* * *
تمّت ترقيتي إلى مرتبة البروفسورية الكاملة عام 1956 من قبل معهد كاليفورنيا التقني Caltech الذي كنتُ أعمل فيه حينذاك، وعندما إتصلتُ هاتفياً بأبي في نيويورك لأخبره بالأخبار المفرحة أجابني: « الجامعات لاترقّي أساتذة جامعيين في سنّك إلى مرتبة البروفسورية الكاملة. تأكّدْ يابني من الخبر «، ثمّ أقفل الهاتف. أحسبهُ برغم كل شيء كان فخوراً بي ؛ لكنّه لم يشأ التصريح بهذا الأمر في ذلك الوقت وإن كان فَعَلَهُ في وقت لاحق بعد ذلك.
عندما إلتحقتُ بمعهد كاليفورنيا التقني كان ريتشارد فاينمان Richard Feynman (الذي يعرفُ اختصاراً في الأوساط الجامعية بإسمه الأول: دِكْ) شخصية ذات سمعة أكاديمية راسخة. كان يكبرني بما يقاربُ إحدى عشرة سنة ونصفاً، وعملنا معاً لسنوات عديدة، وكان الوقت الذي عملتُ معه من أمتع وأخصب أوقات حياتي ؛ فقد كنّا نتبادلُ الأفكار ونناقشُها معاً، وكنّا نتصلُ ببعضنا ليلاً ونهاراً في أوقات ربما حسبها كثيرون غير مناسبة لهم. كنّا نحاولُ تجريب أفكار نتحمّسُ لها ومن ثمّ نكتشفُ بُطلانها، وفي أحيان أخرى كانت بعضُ تلك الأفكار تصيبُ نجاحاً معقولاً. كان عملنا متعة حقيقية ؛ لكنّي إكتشفتُ بعد فترة من العمل المشترك أنّ (دِكْ) كان كثير التمركز حول ذاته والانشغال المفرط بها وبصورته التي أحبّ أن تشيع بين عامّة الناس، وكان انشغاله هذا حِمْلاً كبيراً تنوء به أعصابي. كان (دِكْ) عالماً متفرّداً بكلّ تأكيد ؛ لكنّه صرف الكثير من الوقت في خلق حكايات حول ذاته، هذا فضلاً عن أننا عندما كنّا ننجز عملاً بحثياً مشتركاً كان يعتبرُ هذا العمل وكأنّه إنجاز محسوبٌ له وحده. لستُ أسعى بهذا القول إلى التلميح بأنّ (دِكْ) لم يكن يقدّرُ جهدي البحثي (كان في واقع الأمر يكنُّ لي تقديراً عظيماً) ؛ لكنّه – بشكل ما – لم يكن يستطيعُ إبعاد خصائص أناه الفردية من أي عمل مشترك لنا. إنتهى الأمر معي بعدم قدرتي مشاركة فاينمان في أي جهد بحثي فيزيائي مشترك بعد خمس أو ستّ سنوات من العمل المشترك، وبقينا صديقيْن قريبيْن لبعضنا بعيداً عن مجالات البحث الأكاديمي.
اترك تعليقك