رقابة القضاء الدستوري على الحدود الدستورية بين السلطات

آراء وأفكار 2021/08/08 12:20:56 ص

رقابة القضاء الدستوري على الحدود الدستورية بين السلطات

 القاضي الدكتور فائق زيدان*

لقد كان لظهور الفكر الديمقراطي في عصر النهضة والتنوير الفضل في ظهور مبدأ تقسيم السلطة من الناحية العملية في الحكم، إذ إنّ الاعتراف للشعب بحقِّه في السلطة قد أدّى الى قيام هيئاتٍ تُمَثِّلُهُ ، وتُشارك الملوكَ في الحكم باسم الشعب ونيابةً عنه. وبذلك تعدَّدت الهيئات الحاكمة وتوزَّعت السلطة بعد أن كانت مُركّزة بيد شخص الحاكم.

فقد ذهب افلاطون الى ضرورة تقسيم وظائف الدولة واعمالها المختلفة بين هيئات عدة، ويقوم هذا التقسيم على التوازن في ما بينها بحيث تتعادل، أو تكاد، اوزانها بما يضمن عدم استبداد إحداها وتَغَوَلها على الهيئات الأخرى. فهو يرى ضرورة فصل وظائف الدولة والهيئات التي تمارسها بعضها عن بعض، على أن تتعاون كلها بغية الوصول الى الهدف الرئيسي للدولة، وهو تحقيقُ النفع العام للشعب، وفي سبيل عدم انحراف هيئات الحكم عن اختصاصاتها وأهدافها يُقرِّر لها في مواجهة بعضها وسائل للرقابة يُراد بها منع الانحراف، ووقف كلّ هيئةٍ عندَ حدود اختصاصها. كما وذهب افلاطون في كتابه (القوانين) الى توزيع وظائف الدولة أيضاً على ثلاث هيئات، الفيلسوف الملك أو الحكماء العسكر العامَّة وتمارس كلَ منها وظيفة معينة . 

ويرى الفيلسوف الأغريقي آرسطو انّه من الخير عدم تركيز السلطة في يدٍ واحدةٍ، وإنّما يجب أن يُعهَدُ بها الى هيئات مختلفة، تتعاون فيما بينها وتراقب بعضها بعضاً وذهب الى تقسيمها على ثلاث هيئات وهي: (المداولة أو الفحص المر القضاء). 

المُفَكُر الرائد في مبدأ تقسيم السلطة أو بالأحرى تجزئتها لإضعافها الفرنسي مونتسيكيو، في كتابه روح الشرائع، وفي مقولته الشهيرة "إنَّ السلطة تفسد والسلطة المطلقة تفسد بشكل مطلق أكَّد أنّّه لتجنب ذلك لا بُدَّ منْ أن تُحَد السلطة. فتجزئة السلطة مدخل لإضفاء التوازن سواء من حيث توزيع وظائف الدولة. أم من حيث الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

ومن تطوُرِ حياة المجتمعات السكانية وتَحَوُلها الى مجموعات سياسية مُوزَّعة على دول تختلف بطبيعتها او شكلها. وظهور الدولة الديمقراطية الحديثة وبالتالي ظهور الحياة النيابية، بدأت مسألة تنظيم ممارسة السلطة في الدولة وبناءً عليه ظهر اتجاهً يدعو الى ضرورة تقييد سُلطَةِ الحُكَّام حتى لو كانوا مُنتخبين من قبل الشعب ، فالتجارب اثبتت أنَّ كُلُ تركيزٍ للسلطة يؤدي حتماً إلى الاستبداد: ولهذا السبب عَمِلَ المفكرون القانونيون على إضعاف هذه السلطة وذلك من خلالِ توزيعها على هيئاتٍ مُتعدَّدة، على أن تُخصص كُلُّ هيئة لِمُمارسةِ وظيفةٍ من وظائف الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأن تكن هذه السلطات مُستقِلَّةً بعضها عن البعض، وهذا ما عُرِف بمبدأ الفصل بين السُلطات ، بعد أن كانت هذه السلطات بيد شخصٍ واحد سواءً اكان ملكاً أم امراطوراً. 

والحقيقة، إنَّه إذا كان تنظيمُ السلطات الثلاث ظاهرياً يبدو بسيطاً، إلاّ أنَّ الممارسة تبقى هي نقطة الصراع الحقيقي والمتواصل، إذ قد يؤدي الى سيطرة سلطةٍ على باقي السُلطات وهو الأمرُ الذي تَحَسَّبَت له بعضُ الأنظمة التي حاولت تكريس الديمقراطية فلجأت الى إقامة حدودٍ بين هذه السلطات بالقدر الذي يضمن استقلالها تجاه الأخرى مع إمكانية التعاون بينهم.

لقد اعطى الفقهُ الدستوري نظريةَ فصلِ السُلطات وتوزنها بُعداُ جديداً وذلك من خلال التركيز على دور السلطة القضائية واستقلاليتها لتتمكن من ضبط أداء السلطتين التشريعية والتنفيذية وحماية الحقوق والحُرّيّات الأساسية.

وقد مارست المحكمةُ العليا في الولايات المتحدة هذه السُلطة الرقابية لأول مرة في قضية ماربوري ضد ماديسون لعام 1803 اجتهاداً منها لعدم وجود نصٌ دستوريٌ يُجيز لها هذه السُلَطة ثُمَّ تعمَّمتَ على كُلِّ المحاكم الأمريكية الاتحادية ومحاكم الولايات لتمارسها كُلٍّ ضمن اختصاصها وحدودِ صلاحياتها، وتعود نظريّةُ القضاء الدستوري للفقيه النمساوي هانس كلسن وتلميذهِ شارايسمان إذ وضعا المرتكزات الدستورية والديمقراطية التي تثبت أنًّ الرقابة الدستورية التي تمارسها محكمةُ دستوريّةٌ متخصَّصة لا تُشَكْلُ انتهاكاً لفصل السلطات ولا تعدِّياً على الشرعية الديمقراطية المُمثَّلة بالبرلمان.

إنَّ الأنظمة الدستورية تختلف في الهيئة التي تتولى مهمة القضاء الدستوري فالواقع يتطلب وجود سلطة تسهر على احترام توزيع الصلاحيات ومنع التصادم وضمان تطبيق احكام الدستور وهذه المهمة قد تضطلع بها محكمةٌ دستوريّةٌ أو مجلسٌ دستوريٌ بحسبِ نظام كُلِّ دولة. 

ومن المعلوم أنَّ الدولَ العربية (العراق – لبنان – مصر) وهي موضوع الدراسة المقارنة في هذا الكتاب قد اقتبست أنظمتها السياسية من الأنظمة الكبرى إلا انَّ الاختلاف الكبير في المجتمع بين الشرق والغرب على شتّى الأصعدة (الوعي الديمقراطي الأحزاب وحدة الشعب ... ) نتجتَ عنه اختلافاتٌ في التطبيق فما ناسبَ منها الغرب قد لا يناسبُ الشرق نظراً لضعف بُنية الأنظمة السياسية بالإضافة لوجود اعتبارات مؤثرة فيها اخلَّت بمبدأ الفصل بين السلطات وعلى ضوء المفهوم الحديث لمبدأ فصل السلطات الذي تبنًّتهُ دساتير هذه الدول. وإذا كان تنظيمُ السلطات الثلاث ظاهريّاً يبدو بسيطاً، إلا أنَّ الممارسةَ تبقى هي نقطة الصراع الحقيقي والمتواصل، إذ قد يؤدّي الى سيطرة سُلطةٍ على باقي السُلطات وهو الأمرُ الذي تَحَسَّبَت له بعض الأنظمة التي حاولت تكريس الديمقراطية فلجأت الى إقامة حدود بين هذه السلطات بالقدر الذي يضمن استقلالها تجاه الأخرى مع إمكانية التعاون بينهم وسنحاولُ تبيان الدور الذي لعبَهُ القضاءُ عموماً أو القضاء الدستوري خصوصاً في فرض احترام الحدود الدستوريِّة للسلطاتِ الدستورية، وذلك لحماية الديمقراطية ومنع انتهاك الحقوق والحُرّيّاتِ الأساسية للإنسان.

وبغية شرحِ وبلورةِ كُلَّ الأفكار والاجتهاداتِ القضائية في هذا الخصوص سيتمُ تحليل طبيعة ومفهوم مبدأ الفصل بين السلطات والوظيفة التي يؤدّيها هذا المبدأ ودوره في نجاح النُظم الديمقراطية المقارنة. 

ومن أجل معرفة مدى توافر توازن دقيق بين السُلطات الثلاث والمقارنة بين ثلاثة نُظم مختلفة وتطبيقاتها في دساتير ثلاث دول مختلفة (العراق – لبنان – مصر) مع اللجوء الى بعض الأنظمة السياسية الكبرى التي تُعدُّ الرائدة في الأنظمة الدستورية المعاصرة إضافة الى تحليلِ القرارات القضائية الصادرة من القضاء الدستوري ذات الصلة وما كان من دورٍ لرقابةِ القضاء الدستوري في هذا المجال في الدول الثلاث قسيتمُ تقسيم الكتاب الى قسمين يسبقها مبحثٌ تمهيدي نتناول فيه طبيعة النظم الديمقراطية القائمة على مبدأ الفصل بين السلطات وسيكون القسمُ الأول بعنوان الحدود الدستورية للسُلطات في ظلِّ الفصل بين السلطات والتعاون بينهما وسنركزُ في الفصل الأول منه للكلام عن الحدود الدستورية للسلطات في ظلِّ الفصل بين السلطات في الدساتير المقارنة أمّا الفصل الثاني فسنُكَرِّسُهُ للكلام عن الحدود الدستورية للسلطات في ظل التعاون بين السلطات وأمّا القسم الثاني فسنُعالجُ فيه اختلال الحدود الدستورية للسلطات وسبل معالجتها والرقابة عليها وذلك من خلال تقسيمه على فصلين سنتناول في الفصل الأول اختلال الحدود الدستورية بين السلطات ومعالجتها أمّا الفصل الثاني فسنُخصصه للكلامِ عن الرقابةِ القضائية على اختلال الحدود الدستورية بين السلطات. 

وَسَنَخَتِمُ هذه الدراسة بخاتمةٍ نُجملُ فيها اهم الاستنتاجات التي توصنا إليها والمُستقاة من الواقع العملي لتطبيق مبدأ فصل السلطات لا سيَّما في العراق وسنتبَعُها بجملةٍ من المقترحات التي قد تُسَهِم بنظرنا في تدعيم مبدأ فصل السلطات وجعله قادراً على تحقيق أهدافِهِ التي وُضِعَتَ منذ بداية تكوين الأنظمة السياسية. 

* رئيس مجلس القضاء الاعلى 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top