حسين الهنداوي وقراءات في الفلسفة البابلية

آراء وأفكار 2021/09/06 09:48:43 م

حسين الهنداوي وقراءات في الفلسفة البابلية

 د.معتز عناد غزوان

عرفت بابل بانها المدينة التي شكلت جدلاً كبيراً من حيث تنوعها الحضاري ومنجزها الانساني المختلف عن ما سبق حضارات بلاد الرافدين من انجازات وتمثلات كان لها حضورها الكبير في صفحات التاريخ، اذ شكلت بابل دوراً كبيرا في احياء التراث الرافديني العريق في مجالات شتى، تعدت في الكتابة واللغة والمعتقد بل وحتى العمارة والفنون،

اذ غدت الفلسفة البابلية مثار اعجاب للعديد من الرحالة والمؤرخين ولعل من ابرزهم (سترابون) الذي دون تلك الوقائع التي سجلها في كتابه الشهير (الجغرافيا) واصفا اياها بالحدائق المعلقة من عجائب الدنيا، ولعل ما اثار هذا الرحالة المهم الذي جاب مشارق الارض ومغاربها عمران بابل .

كما كتب الرحالة والمؤرخ (هيرودوتس) الكثير من الحقائق عن الفكر البابلي على الرغم من عدم احتمالية زيارته لبابل في حدود (460ق.م) كما أشار الى ذلك الاستاذ طه باقر. بيد ان (هيرودوتس) قد اشار في فقرات عدة الى بابل وفلسفتها المعمارية والانسانية والعلمية ،من هذا المنطلق جاء كتاب الفلسفة البابلية للمؤلف والباحث الدكتور حسين الهنداوي ليسلط الضوء على العديد من المناطق التي مازالت معتمة للقارئ والباحث، ليضيء لنا جوانب مهمة من المعطيات الحضارية والانسانية لبابل وأهلها، ويشر الى ان الفلسفة البابلية ليست فلسفة منهجية انما كانت تأسيسية، اي انها لم تولد على يد مفكر او فيلسوف معين، بل انها تفرض مكانتها من خلال منجزاتها ومعطيات حضارتها الانسانية، وهذا لم يكن لولا تنوع وتلاقح افكارها المحلية مع الافكار الدخيلة اليها ولاسيما الفارسية، و الاغريقية او الهللينية على وجه الخصوص بعد فتح الاسكندر الكبير لها وبدء حياة جديدة تتمتع بطعم خاص ومتميز، انها الفلسفة الاغريقية التي تناغمت مع الفلسفة الرافدينية، التي لا يمكن تأويلها بعيداً عن الدين والمعتقد والحياة الاجتماعية، وهنا يشير المؤلف الى سؤال مهم طرحه المؤرخ العربي الكبير ابن خلدون والذي يستفهم فيه قائلاً: اين هي علوم أهل بابل؟؟؟ وبحسب وجهة نظر المؤلف في تأويل مكنونات هذا السؤال المهم والذي يقصد فيه ابن خلدون العلوم الفلسفية وعلم التاريخ بشكل خاص، كما انه وجد ان من الغريب واللامعقول ان لا يكون البابليون قد اشتغلوا في هذا الحقل ايضا، وعلى الرغم من استحالة الجواب المناسب آنذاك، لم يشأ ابن خلدون في مقدمته الا ان يؤكد يقينه الافتراضي بالعبقرية العقلية للبابليين عندما كتب: ((لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل الينا))، هذا هو الاستنتاج الذي توصل اليه ابن خلدون قبل ان يؤكد يقينه الافتراضي ايضا بوجود الفلسفة كما يوحي بذلك القول نفسه، محاولاً تعليل النفس بالجواب الوحيد الحاضر لكن العاجز ايضا على حد تعبير المؤلف، اذ يقول (( العلوم كثيرة والحكماء في اهل النوع الانساني متعددون، ومالم يصل الينا في العلوم اكثر مما وصل)). كما تطرق المؤلف الى دراسة ومناقشة آراء فلاسفة عرب ومسلمين آخرين كالفيلسوف العراقي احمد بن علي المعروف بابن وحشية النبطي الكلداني الذي عاش في نهاية القرن الثالث الهجري، اذ ترجم كتباً بابلية قديمة عدة عنيت بالعلوم ككتاب (اسرار الفلك في احكام النجوم) وموضوعات اخرى متنوعة. كما أشار المؤلف الى دور البابليين في علوم الطب وان أول موسوعة طبية في العالم باسم (المعجم الطبي) كانت للعالم العراقي البابلي (أيسكال كين أبلي) والتي كانت تتألف من اربعين رقماً طينياً وتدعى (ساكيكو) (Sakikku).

ومن الاشارات المهمة للمؤلف الدكتور حسين الهنداوي في كتابه المهم هذا ما أثار جدلاً واسعاً في النظريات الرياضية التي ظل المؤرخون لمئات السنين يعدون الفيلسوف الاغريقي (فيثاغورس) هو المكتشف الاول لنظرية قياس المثلث القائم الزاوية والتي تحمل اسم نظرية فيثاغورس الى يومنا هذا، وهنا يؤكد المؤلف بان البابليون هم من اكتشفوا هذه النظرية قبيل فيثاغورس، في اشارته الى ذلك استناداً الى فريق علماء الرياضيات وبإشراف الدكتور (دانيال مانسفيلد) وزميله الدكتور (نورمان وايلدبيرغر) من جامعة (نيو ساوث ويلز) الاسترالية، اذ اعلنوا في دراستهم الجديدة والتي نشرت في صيف عام 2017م، ان اللوح البابلي المعروف باسم (بلمبتون 322) الذي يعود تاريخه الى اكثر من (3700) سنة والمكتشف في مدينة (لارسا) بجنوب العراق، يثبت ان البابليين كانوا اساتذة الاغريق القدماء في علوم الهندسة والرياضيات مؤكداً على انهم اخترعوا علم المثلثات قبل ان يعرفه الاغريق بخمسة عشر قرناً، كما اكتشفوا ما صار يعرف (بقاعدة او نظرية فيثاغورس) في قياس المثلث، قبل مئات السنين من ولادة العالم الاغريقي الذي سميت النظرية خطأً باسمه. ومن الامور المهمة التي تطرق اليها المؤلف في حديثه الشيق عن الفلسفة البابلية في العلوم والثقافة الانسانية هي ما درسه بشكل دقيق في ما يعرف (بملحمة الخلق البابلية) (أينوما ايليش) بأسلوب قصصي حكائي تسوده الغرابة والفلسفة الالهية التي تشابهت مع مفهوم الخليقة الالهية السماوية التي عرفت في معظم الكتب المقدسة الموحدة، اذ وضع المؤلف نصا من تلك الملحمة بعنوان (الأمر الالهي بخلق الانسان) في الفكر البابلي الذي نصه: ((يؤخذ طين من أسمى مياه الاعماق، ويقوم أمهر الصناع الالهيين بعجنه وتكثيفه، وتبدع ربة الخلق في الارحام بتكوين هيئته واعضائه، ويكتب اله المصائر قدره، ونعلق عليها صورة الالهة على انه انسان...)) لقد أراد المؤلف ان يقدم لنا مظهراً فلسفياً عقائدياً يتسم بنوع من المحاكاة لفلسفة الديانات الموحدة فيما بعد والتي قد تتشابه في بعض الحقائق التي اوردتها تلك الديانات ومنها الاسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم بقوله تعالى((هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون)) (الأنعام / 2)، وقوله تعالى ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين)) (المؤمنون/ 12)، وفي حديث نبوي للرسول الكريم (ص) ((إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طينا، ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا خلقه وصوره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار((، ان تلك المقاربات ما بين الفلسفة الوثنية البابلية والديانة التوحيدية ولاسيما الآيات القرآنية والاحاديث النبوية تعطينا دون ادنى شك تلك العلاقة ما بين الاله خالق الانسان ولاسيما عن البابليين، والتي تأثرت بها الفلسفة الدينية المصرية القديمة وحتى اليهودية وهي احدى الديانات التوحيدية، اذ وردت تلك الاقتباسات والتأثيرات واضحة وجلية في سفر التكوين وكما يأتي: ((قال الرب نعمل الانسان على صورتنا كمثلنا... فخلق الرب الانسان على صورته... على صورة الرب خلق الانسان..)).

في معرض حديثه عن نظرية المعرفة البابلية حدد الهنداوي اربعة أنماط او مصادر للاستنتاج النظري حول نظرية المعرفة البابلية وهي الادراك المباشر او التجريبي الذي ينتج حقائق للظواهر الكونية، والاستنتاج المنطقي الذي ينتج بديهيات ظاهرية عن ذات الموضوعات والظواهر، والوعي العقلي الذي ينتج مفاهيم تفرض نفسها كحقائق عقلية مطلقة، واخيراً الايمان الديني التي ينتج كليات غيبية مطلقة الصدق بذاتها تقوم على استقلالية القضايا الروحية والدينية عن معايير البرهان ومن ثم امكانية الشك بمطلقتيها بل انها تثير الجدل الكبير. وهذا ما أكده المؤلف في دراسته لفلسفة الثالوث المقدس والتي تصنف الى النظام والقدرة والعقل، وقد حددها في محضر تحليله الفلسفي المتميز الى ان (آنو) (رمز الخالق المطلق) ويمثل القوة العليا في الكون، بل هو اب الالهة جميعاً، كما هو (زيوس) الاغريقي على سبيل المثال، وان مقره السماء. و (انليل) وهو رمز القوة الالهية المطلقة او الروح الكونية التي تفصل السماء عن الارض، وهو اله الهواء في الفكر الرافديني القديم. اما (انكي) ويسمى (أيا) عند البابليين، فهو رمز العقل المطلق، وهو في الوقت نفسه سيد الارض وواهب الحياة، والذي اشارت اليه النصوص البابلية بانه خلق الانسان من طين مقدس ودم أله وروح سماوية. ولعل من أهم ما تطرق اليه المؤلف في عرضه الشيق والتفصيلي الواسع لدراسة الفلسفة البابلية واشكاليات الاندماج الهلليني وما شكلته تلك العلاقة التي فرضتها قوة التعالق ما بين الفلسفة الغربية القادمة من وراء البحر والفلسفة البابلية العميقة، اذ يشير المؤلف الى ما ذهب اليه مؤرخ الفلسفة الفرنسي (أيميل برهييه) الذي يؤكد فيها ان ارسطو طاليس لم يكن مبتدع نظرية فلسفية مبتكرة في نشأة الكون ، وان فكرة (الماء أصل الوجود) هي فكرة وجدت في الفكر السومري والبابلي والاشوري والاكدي، وتعبر عنها نصوص عدة، كما انها منتشرة بشكل كبير في الثقافات والفكر الفينيقي والمصري القديم وحتى الفكر الاغريقي، وتجدر الاشارة الى ان طاليس كان قد درس علوم الفلك والهندسة في بابل، ليكون اول الفلكيين والرياضيين واشهرهم في العالم القديم، والمعروف بشكل مطلق وكما اشار اليه (جورج سارتون) في كتابه (تاريخ العلم) الى ان البابليين قاموا بوصف حركات الكواكب وصفاً دقيقاً وشرحوا ذلك في جداول حسابية. وان الاسبقية للبابليين في اكتشاف علوم الفلك والرياضيات قد سبقوا بذلك ارسطو طاليس بسنوات كثيرة بحسب ما اشار اليه المؤلف، وهذا ما يتطابق مع وجهة نظر (سارتون) في محضر حديثه عن تلك العلاقة التي جمعته بالفيلسوفين (أرسطوطاليس وافلاطون) ،والاخيران كانا يعدان الشعوب غير الاغريقية بالبرابرة والعبيد، وانه من الصواب محاربتهم واستعبدهم، وهذا ما تناقض مع سياسة الاسكندر الكبير الذي كان اندفاعه نبيلاً واميناً رغم التناقضات التاريخية الكثيرة حول شخصيته التي كان المصريون القدماء قد رحبوا به بل وجعلوه الها من شدة حبهم له ولجهوده في تحريرهم من الفرس، ويشير (سارتون) الى ان الاسكندر قد ادرك مالم يدركه افلاطون ولا ارسطو طاليس وهو امكان قيام الوحدة بين البشر، وهذا ما قام به في فتوحاته لسوريا ومصروبابل تحديداً، ويشير الى ذلك المؤرخ (فلافيوس آريانوس) في كتابه (أيام الاسكندر الكبير في العراق) قائلاً: ((ما ان دخل الاسكندر بابل الا أمر اهلها بإعادة بناء المعابد التي خربت ولاسيما معبد (بعل) الاله الذي يجله البابليون)) كما أشار الى ذلك المؤلف الدكتور حسين الهنداوي في معظم فصول هذا الكتاب. كما يضيف (أريانوس) الى أهمية التعايش ما بين الاغريق والبابليين، اذ ألتقى الاسكندر في بابل بالكلدان ونفذ كل ما اشاروا عليه مما يتصل بالطقوس والشعائر البابلية القديمة ولاسيما قرابين الاله (بعل).

تعليقات الزوار

  • د. شذى العاملي

    من منظور جديد يدخل المؤلف د. حسين الهنداوي لتفسير نظريات المعرفة البابلية التي استقت من علومها وفنونها الإنسانية جمعاء... تقديم اكثر من رائع للاستاذ الدكتور معتز عناد غزوان ..جهود مباركة وفقكم الله.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top