علي الوردي وظاهرة الشحن الطائفي

آراء وأفكار 2021/09/11 10:39:51 م

علي الوردي وظاهرة الشحن الطائفي

 عباس العلي

لم يكن الوردي عالم أجتماع فقط بل كان باحثا فكريا وناقدا سيسيولوجيا من طراز فريد، أستفاد من مقدماته التكوينية الدينية وفهمه الحقيقي للدين، ومزج بين دعوته الإصلاحية النقدية وبين منهجه العلمي وتأثيرات عالم النظريات الحداثية التي عايشها وتفهم دوافعها وأسسها الفلسفية والفكرية وما تلمسه من حلول ظن أنها قادره على إحداث التصليح والتصحيح بين الواقع والهدف الغائي منها ،

وبين أمانيه كونه يمثل جزءا مهما من النخبة التنويرية التي تتحسس وتعي مسؤوليتها في قيادة المجتمع، دون أن يترك مجالا يمكنه الدلف منه إلى نشر تلك الدعوة التنويرية، مما أفرد له مكانه خاصة في عالم الحرية الإنسانية ومراميها في أستعادة الوعي بإنسانية الإنسان كونه غاية الفكر والعلم والفلسفة.

الجانب المشرق الأخر من فكرة ونظرة الدكتور الوردي ومن سياق تحليلاته التي ركز عليها كثيرا مسألة النظرة إلى الدين، أو ظاهرة التدين واصفا بحدية عالية كل أشكال المظهر السلبي منها رادا ذلك إلى نفس العامل الأول، وهو صراع البداوة والحضارة معتبرا أن أس الصراع هو الميل المحافظ البدوي الذي لا يستسيغ الحرية والتطور ومسايرة الزمن في استحقاقاته على القراءة الدينية، وبين الحضارة كقيمة قادرة على ترجمة الدين بإحساس زمنه مما يجعله قادر على التوظيف والتحديث الذاتي دون أن يفقد الدين سماته الأساسية .

فقد تطرق في دراسته التحليلية والشخصية إلى جوانب مهمة من تكوين هذه الشخصية مشيرا إلى دور (النموذج القدوة) بشكل مباشر وأحيانا بالإدانة الى شخصيات التاريخ الديني والأجتماعي، والتي كان لها التأثير الواضح علي حياة العراقي من خلال عاملي الأنحياز أو الضدية، فعند الخيار العام المتاح لهذه الشخصية في أصطفافها أو تخليها عن نموذج ما فإنه يعامل هذه الشخصية بالكلية فهو أما معها بكل إيجابياتها والتساهل في الجانب الأخر، أو رفضها لكل سلبياتها والتشدد في الإدانة مع وجود جانب قد يكون مضيئا فيها، هذا الموقف الحدي الذي تعاملت به الشخصية العراقية أنسحب بشكل أو بأخر كطبع على مقاييس التعبير العام تجاه أي موضوع أو مسألة، فهو أما غارق حتى أذنيه في الولاء المطلق لها، أو نافر للحد الذي لا يرى أي مجال حتى للقبول بالمناقشة الحقيقية التقييمية، هنا يكون أما ناقم متطرف ضد الموضوع أو مستسلم لحد اللا أبالية تجاه العقلانية في فهم وتحليل الموقف وفقا لأسس وقواعد المنطق العقلي.

ثم عالج الوردي مفهوم المدنية كقيمة قياسية أجتماعية وسياسية وثقافية رابطا بينها وبين الحضارة والتطور والتجديد، ويشير إلى مفردات تكوينية محددة لعبت دورا في صنع الوعي المدني والحضاري منها الجهل والتعصب وطبيعة الريف والبادية ثم المدينة المتريفة والهجرة ومشكلة ازدواج الشخصية والمدينة الفاضلة والتقوقع البشري وتأثير (الخوارق والأحلام) علي مظاهر السلوك الإنساني ومعطياته ونتائجه، وسط هذا التزاحم والكم الهائل من الجوانب الاجتماعية والفلسفية المبحوثة والمعرضة للنقد التقويمي بجرأة غير مسبوقة ولا مبالي بمسائل قد تعود بنتائج سلبية علي الباحث، وهما مسألتان مهمتان هما تأثير الأديان ودور رجال الدين بشكل أساسي لطبيعة دور الدين والتدين وقيمتهما في الذات الشخصانية، والأمر الأخر يتعلق بقواعد التعامل المحرم مع (التابو) الشرف الأجتماعي (العيب) والانحراف الجنسي وإبداء أراء صريحة ومنطقية بهذا الصدد.

هذا الحال جر البعض من خصومه ومن أنصاره الإدعاء بأن الوردي يتهم الشخصية العراقية بالميل نحو المراوغة والنفاق، والحقيقة هذا الأتهام غير واقعي وغير حقيقي بالمرة، فلم يسمي الدكتور الوردي صراحة المجتمع العراقي بالمجتمع المنافق الذي يضمر شيء ويفعل شيء الأخر، النفاق الأجتماعي المدان عند الوردي والذي أستق مصدريته من فهمه للكلمة كما وردت في القرآن الكريم غير ظاهرة التلاؤم والمحايلة العقلية والنفسية السلوكية التي نتجت من حالتي الصراع والناشز الذي ذكرناهما سابقا والمتخذ منها ومن مجموعة من المظاهر التي شخصها وصفا أجتماعيا عموميا للشخصية العراقية، لكن لم يصرح بكونهما نفاقا أجتماعيا مرضيا لا في الحقيقة ولا في التلميح (كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)الصف3، إنه يدين المعالجات الخاطئة في التصرف ويسميها ميل تدبري لا عقلاني للتغلب على وضع غير خاضع للفهم أو غير قابل للمعالجة بما في الشخصية العراقية من قدرة على التعامل الناجح معها.

فهو يصفها باللاعقلانية السلوكية وهذا الوصف الفكري هو الأقرب لتحليلات الوردي وتشخيصاته، خاصة عندما يقرأها من طور تدينها وتعاملها مع الدين، ومع أنه يحذر من أن العراقي بهذه الصفات ليس منافقاً أو مرائياً كما يحب البعض أن يسميه بذلك وفقا لما جاء في مخاطبة الحجاج لأهل العراق وتسميتهم بـ (أهل اللجاج والنفاق) أو مفهوم التقية المحرف لدى البعض ممن يتدينون بها، لكنه يعود ليكشف عن إيمانه بنفاقية المجتمع العراقي وخاصة المؤسسة الدينية في شقه الدعوي والاجتماعي، ويلمح لأثرها على المجتمع والفرد في تأكيده على أن العراقي كشخصية يعمل بإحدى شخصيتيه ينسى ما فعل آنفا بالشخصية الأخرى أي أنه سهل الأنخداع ببساطته وإيمانه بالغرور والتغرر كما ورد بالمثل العامي (شيمه وأخذ عباته)..

لقد اتخذت الدكتور الوردي من العقل الجمعي العراقي الذي يعيش الطائفية المذهبية وكأنها نهاية القرار الديني لديها في عين الوقت الذي يرى فيه تخلي عن جوهرية الدين الحقيقي الذي يوصم بالشرك والإلحاد على مستوى واحد من التعاطي، وعلى نفس المستوى من الإدراك عيبا أساسيا قاد الشخصية العرقية للنتيجة التي ألت إليها تحليلاته، وهذا ناتج من الثنيوية التاريخية والجغرافية التي أثرت عميقا في اللا وعي المستتر، في الوقت الذي يتمسك جزء من هذه العقلية بقوة نحو المحافظة والتشدد في الاعتناق المذهبي تقابله ردة فعل معاكسة في الأتجاه والتصور، هذا قاد إلى نوع من التوتر الذي لا أمل فيه للوصول لمشتركات على مستوى العقيدة والدين، كلما كانت المظاهر العبادية مدانة من طرف يقابلها إصرار على أختلاق تطرف مقابل عن الطرف الأخر، هذا الموضوع ليس خاصا في التمذهب العراقي، ولكن لقوة الطرفين وحضورهما الفعلي وجها لوجه، أبرز الإشكالية على السطح وجعل مفاعيلها واضحة للعيان، مع العلم أنها تجري أيضا في غالب المجتمعات التي تكون فيها تناقضات مذهبية ويكون فيها توازن بين عناصرها وليس في المجتمعات التي تشكل أغلبية عظمى وأقلية مقهورة كما في دول الخليج العربي أو في مصر مثلا.

فالصراع المذهبي يتبلور لسببين هما وجود توازن أو تعادل متقارب بين مجموعتين متناقضتين على مبدأ واحد، وثانيا علاقة كل منهما بالقوة ومصدر القرار، قبل عام 2003 في العراق كان الميزان السلطوي يميل لمصلحة الطائفة السنية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة أوائل القرن الماضي، وبأمتداد تاريخي سابق في الحقبة العثمانية، جعل القوة والغلبة في الصراع محسومه دوما لها، بعد 2003 ونتيجة التغيير الخارجي للسلطة برزت قوة المنافس الخصم الذي لم يترك وسيلة ولا طريقة تمكنه من محاولة التعويض عن الظلامات القديمة كتطرف أجتماعي مذهبي، لذا فالطرف الأخر كان يتحسس من هذا الواقع الجديد الذي لم يعتاد عليه سابقا، فحاول وقف هذا المد من خلال احتضانه للتطرف والتشدد الذي وإن ظهر بعنوان سياسي لكنه في الحقيقة ردة فعل أكثر من كونها قرار سياسي للطائفة.

هذا التطرف والتطرف المقابل شرخ في الوجدان العراقي وأسس لنوع من الانفصام في الذات العراقية عامة حولها من مفهوم وطني جامع إلى فئوية متضايقة وأحيانا متطرفة برغم أن الجميع يرفع شعار العراق كوطن نهائي، الذي عمق الأزمة ولعب دور المحرض المذهبي الخارجي ليس العامل الديني وحده، ولكن تناقضات المذهبية على المستوى الإقليمي ومحاولة البحث عن الزعامة بين دول محورية ودول دائرة في مدار المحور، هذا التنافس المذهبي بدل أن يتحول لمصدر قوة ومصالحة تاريخية لبناء مجتمع جديد، مستفيدا من عوامل التغيير المتاحة والذهاب إلى التخلص من العوامل الغير قادرة على الأستجابة الطبيعية للتغيير والتحديث، أرهقت الشخصية العراقية التي أنخرطت في عمليات غسيل دماغ جمعي ومجموعي من خلال خلق قواعد شعبية غارقة في قرويتها وريفيتها لتكون عنصر صراع بين المدنية والتحضر من جهة وبين عوامل ومحركات التخلف والتراجع الحضاري والفكري من جهة أخرى.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top