رزاق عداي
الرئيس الأميركي الحالي (جو بايدن) زار العراق اكثر من عشرين مرة في الفترة ما بين 2008 و2011 والتقى بأغلب قادة العملية السياسية، عندما كان نائباَ للرئيس الاميركي الاسبق (اوباما)، حينها كان (بايدن) مكلفا بالملف العراقي، وبعدها اصبح مشرفا على عملية سحب القوات الاميركية من العراق.
ولذلك يعتقد المراقبون انه يعتبر من ابرز السياسيين الاميركان العارفين بدقائق تفاصيل الشأْن السياسي العراقي، اذ سبق ان كُلف من قبل الكونغرس الاميركي عندما كان عضواَ فيه بالاشراف على ملف (القضية العراقية) المتضمن قرار اسقاط النظام السابق ، بموجب قانون صدر في عام 1998 ،كما كانت تسمى آنذاك في عام 2002، يساعده في ذلك وزير الخارجية الاميركية الحالي (بلينكن )، وعندما تقدم في عام 2007 بمشروع تقسيم العراق الى الكونغرس الاميركي تم التصويت لصالحه مع وقف العمل به.
في تلك الفترة التي حضرت فكرة تقسيم العراق في ذهن بايدن الى ثلاث مناطق على أسس مذهبية -عرقية، لم يكن يجول في خاطره الا تصور بأنه يقدم خدمة كبيرة او مشروعا خلاصيا للشعب العراقي الذي كان آنذاك في غمرة حرب أهلية كانت تنذر بشرخ مجتمعي كبير ومجزرة ذاتية كادت تذهب به الى الهاوية الماحقة.
والحقيقة أن فكرة تقسيم العراق هي جزء من مشروع كبير لتقسيم اغلب بلدان الشرق الاوسط وصولا الى افغانستان، كانت من بنات افكار المستشرق والمؤرخ البريطاني -الاميركي (برنارد لويس) المقرب من مصادر القرار السياسي الامريكي ، الذي كان يرى ان شعوب هذه البلدان تمر بحالة قديمة من احتقان واحتراب طائفي وعرقي غير منتهية ، مستمدة من متون وايديولوجيات وعقائد تكرس تمزقهم ولا تسمح لبعضهم البعض بالانفتاح على الاخر والقبول به، وبهذا تتمركز هذه الاعراق والمذاهب على ذواتها وتبدو غير مستعدة لتقبل الحداثة والديمقراطية ، إلا اذا جرى تقسيمها ضمن اقاليم مذهبية وعرقية مجزأة، وخلاف ذلك تبقى هذه الشعوب في حالة ركود، والحقيقة تعد هذه الترسيمة الايديولوجية الاجرائية ما يمثل الغطاء التبريري لهذا المشروع الذي يضاهي المشاريع التقسيمية السابقة للمنطقة، كمشروع سايكس – بيكوــ...
الاستراتيجيات الامريكية قد لا تقاس احياناَ بمقياس الانتصار العادي والاّني بقدر ما تحددها المصالح الامريكية كقوة عالمية كبرى ، وهناك ادلة ووقائع تشير الى ذلك وتؤكده ، ففي الصفحات الاولى من كتاب ((النظام العالمي )) لوزير الخارجية الامريكي الاسبق ( هنري كيسنجر ) يذكر : بوصفي اكاديميا في عام 1961 زرت الرئيس الامريكي ( هاري ترومان ) حين وجدتني بمدينة كنساس محاضراَ ، وعن سؤال ما كان السبب الاول لاعتزازه برئاستة ( بالتلميح الى موافقته على قرار استخدام القنبلة الذرية في اليابان عام 1945 ) ، أجاب ترومان ؛ الحقنا هزيمة كاملة باْعدائنا ، أعدناهم الى اسرة الأمم ،..اي ان ترومان اراد ان يقول ان سياسات امريكا الاستراتيجة ترتبط بمصالحها اكثر من الانتساب الى انتصاراتها .
باْلامس انتهت عملية إنسحاب امريكا من افغانستان ، وهي على وشك الشروع بالانسحاب من العراق ، وبالمقارنة مع رؤية (ترومان ) وتصوراته ، نجد ان الرئيس الامريكي ووزير خارجيته (بلنكن ) يتفقان بالتصريح ان امريكا حققت اهدافها وبات الانسحاب ضرورياَ ، وبالتالي ان هذا الانسحاب مرتبط مع مصالح امريكا المستجدة ، فيعد عقد من زمان ذلك التاريخ تقريباَ الذي زار فيه كيسنجر هاري ترومان اعتقد القادة الامريكان انذاك ولغاية اليوم ربما ، ان الحرب في الفيتنام وان انتهت بصيغة الهزيمة ، ولكنها كانت ضرورية لتلقين بعض شعوب شرق اسيا درساَ جراء انخراطها باْلايديولوجية الشيوعية ، فغالبا ما يكون تصميم الاستراتيجيات الامريكية باعتبارها قوة كونية محورية ، في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي السابق ، او قضية الحرب على الارهاب ، او ربما اليوم في المواجهة الاقتصادية مع الصين .
وبعيدا عن كل النظريات والتخريجات اليوم كون امريكا قد بدلت بوصلة استراتيجيات تحالفاتها نتيجة صراعها الاقتصادي المتنامي مع الصين ، وبالنتائج الملموسة نستنتج ان المشروع الامريكي في مواجهة الارهاب ،ونشر الديمقراطية ، اثبت فشله المطلق في حدود التجربة الافغانية على الاقل ، فها هي طالبان تعود بسرعة وتحتل افغانستان من اقصاها الى اقصاها .
ما يتدوال في الايام الاخيرة وتحديدا مع فترة تسلم (بايدن) لشؤون الرئاسة الاميركية واعلان برنامجه الحكومي وملفاته في السياسة الخارجية، يلاحظ ان هناك استبعادا للملف العراقي من دائرة الاهتمام الاميركي ودمجه بملف اقليمي مجاور ، وبتحليل أدق يرى المهتمون بهذا الامر ان الاخفاق العراقي في بناء دولة مستقرة ومتوازنة ، تكفل مصالح الاعراق والمذاهب تجعل مستقبل العراق كبلد موحد في مهب الريح.
قد يبدو ان مشروع (بايدن) لم يعد على قيد الحياة، بواقع ان العراق بالمسمى ما عاد محتلا من قبل اميركا، وبذلك لم يعد من مسؤوليتها ضمن الاعراف الدولية لتقرير مصيره، ولكن وفقاَ لمتبقيات ومتخلفات فترة الاحتلال وما اعقبها من اتفاق الاطار الستراتيجي، يكون مشروع تقسيم العراق قابلا للإحياء من جديد وحتى بدون وجود احتلال امريكي اّخذين تجربة 2007 عندما اندلعت الحرب الاهلية في ظل الاحتلال ، فاذا ما ظل اداء حكومات العراق على حاله، وبوجود بايدن رئيسا لاميركا، -- فالمستقبل مفتوح على كل احتمال ...
اترك تعليقك