اللوحة الواحدة بعد الأربعين

اللوحة الواحدة بعد الأربعين

 رحمن خضير عباس

لم ينفّذ منصور البكري لوحته الواحدة بعد الأربعين كما وَعَدَنا جميعا. لقد استسلم لنومته الأبدية بين لوحاته وألوانه التي لا يملك غيرها.

أسلم الروح في برلين بعد خروجه من المستشفى بيوم واحد، وكأنه يقدم لنا آخر لوحة تراجيديا في موته غير المتوقع، على عكس جميع تخطيطاته التي أشاعت الفرح بين الأطفال والكبار،منذ عمله في مجلتي والمزمار بداية السبعينات حتى هذه اللحظة، حيث غادر الوطن مُرغما، وهو يرى أن أغلب مجايليه قد التهمتهم الحرب،وحيث أن النظام جعل من الفنّ مجرد وسيلة رخيصة لتمجيد الحرب والتصفيق للموت، لذلك حمل حقائبه للبحث عن ملاذ، فاختار إيطاليا التي انبهر بفنّها،ولكنّه لم يمكث فيها سوى عام واحد لأنها لم تلب طموحاته في عيش كريم، فانتقل ألمانيا، حيث أكمل دراسته في معهد الفنون. ولكنّه كان يعيش مخاض الوطن، فعاد إليه بعد التغيير، بيد أنه أصيب بالإحباط مما حلّ ببغداد، فعاد إلى برلين من جديد، ليعيش هموم الوطن من خلال لوحاته.

قبل شهر ونصف دخل المستشفى، وبدلا من أن يثير قلق أصدقائه، فقد أشغلهم بلوحاته اليومية التي أنستهم فحوى دائه.

في كل يوم ننتظر إطلالة اللون ووهج الوجوه من خلال صفحته في الفيسبوك، فقد حوّل غرفته في المستشفى إلى استوديو للتصوير، حتى أستقطب الكثير من الممرضات والممرضين والأطباء والعاملين. كان الفرح يشعّ من تلك الغرفة، لأن هذا المريض الاستثنائي (منصور البكري) قد حوّل المكان إلى أمواج من الوجوه والملامح التي تضج بألوان مختلفة، من خلال تجوّله بين المشاهير في مجالات الأدب والسياسة والفن والرياضة، مشاهير الماضي الذي يغوص فيه محللا وناقدا، ومشاهير الحاضر الذين تركوا لمساتهم في مجالات مختلفة في الفن والحياة، فيلتقط ملامحهم بدقة الفنان الماهر، ثم يُحيلهم إلى تحليله الفني الخاص، من خلال اختيار اللون وطبيعة تضخيم الملامح.

في أول يوم من دخوله المستشفى في برلين، أعلن في صفحته بأنه هناك ليس لمرض معين، بل من أجل فحوصات روتينية: " أنا مقيم حاليا في المستشفى، ماكو شي بالعكس خدمة ممتازة" كانت فيروز ترافقه في يومه الأول ، فقد نفّذ لها أول كاريكاتير، وكأنه يستعين بصوتها الجميل على صمت الغرفة، ثم توالت الأيام متجاوزة ما حُدد له من إقامة، فرأينا الكثير من العباقرة والذين ظلوا يتقافزون من صفحاته على هيئة لوحات: ( ديستوفسكي وتولستوي ومحمد غني حكمت وماما تيريزا وجيفارا وبوب مورلي وهتشكوك ومظفر النواب وغيرهم) كل يوم سكيتس جديد يُبهر به المتابعين والمعجبين من زوار المستشفى والعاملين فيه، حتى وصل إلى اللوحة الأربعين في يومه الأربعين.

وكأن لوحاته تسجل حجم معاناته وأيام عزلته، وهو يجابه كل ذلك بفرشة الإبداع. رغم شكواه من أن الأزرق والتركواز والأصفر قد نفدت من علبته، ولكنّه بقي مصرا على الخلق والإبداع.

كان يحلم بإكمال دفتر رسومه الذي يتكون من مائة ورقة، ويحلم أيضا ببيع لوحاته بعد أن يقيم لها معرضا.

ولكنّ حلمه مات في غرفته ببرلين، قبل أن يهنأه الأصدقاء بخروجه من المستشفى.

لقد غادرنا منصور البكري وهو في قمة عطائه.

ستقف ( مجلتي والمزمار) وكل لوحاته وتخطيطاته حدادا على عازف اللون ومبدع الملامح والوجوه، الفقيد منصور البكري.

تعليقات الزوار

  • عالية كريم

    تصحيح : الفنان منضور لم يمت بعد يوم واحد من خروجه من المستشفى، ولم يمت قبل أن يهنئه الأصدقاء، بل أنه أخذ الكوفيد في حفلة أقامها الأصدقاء أحتفالاً بخروجه من المستشفى

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top