تِرَاجِيدِيًّا خَاتِمَةَ فَنَّانٍ بَعِيدٍ عَنْ وَطَنٍ اِنْكَفَأَ اِزْدِهَارُهُ

تِرَاجِيدِيًّا خَاتِمَةَ فَنَّانٍ بَعِيدٍ عَنْ وَطَنٍ اِنْكَفَأَ اِزْدِهَارُهُ

عصام الياسري

في محيط زمني كان يجمعنا عنوة، هو في مشفى لعلاج القلب الذي كان يعاني منه طويلا وتضاعفت مشاكله فما أن يخرج حتى يعود إليه من جديد بعد بضعة أيام .

وأنا في مشفى لإجراء عملية ومن بعد انتقالي إلى دار للنقاهة وسط غابة تنتشر فيها أشجار السدر والسنديان الباسقة. كنا على مدى أكثر من شهرين نتواصل على النقال ليطمئن أحدنا على الآخر ونتحدث عن مشاريعنا المشتركة وكيفية متابعتها.

في العاصمة الألمانية برلين، ووسط وقت مزدحم بالأحداث والمشاريع التي كانت تشغله رحل عنا فجر يوم الخميس 4 تشرين الثاني نوفمبر 2021 عن عمر ناهز الخامسة والستين الفنان التشكيلي الغائب الحاضر، منصور البكري بشكل مفاجئ لم يمهله تحقيق ما كان يعد له من مشاريع فنية في غاية الأهمية، معرضه الفني الجديد في نوفمبر وطباعة كتابه الخاص بأعماله الفنية عن "كلكامش". المهم أيضا أنه كان يعد لإصدار آخر يتضمن جميع أعمال "الكاريكاتير" الـ 40 التي كان ينجزها وهو في المستشفى الواحدة تلو الأخرى يوميا. لقد رحل منصور وهو على دراية من أنه سيواجه حتمية الموت بشجاعة فائقة، طالما حدثني عنه بالقول: (أنا لا أخاف الموت عزيزي عصام إنجازي الفني الذي افتخر به واعتز، سيخلدني حياً) .. أنا حتى اللحظة لم اصدق بأنه كان على موعد مع الزائر الأجل، ولم أستطع نفسيا استيعاب ذلك على أنه قد حدث فعلا . الأمر ينطبق كذلك على الأقارب والأصدقاء والمعارف العراقيين والعرب والألمان، ولم يصدق أحد بأن العراقي فنان الكاريكاتير المتميّز منصور البكري قد غادرنا إلى مثواه الأخير، وبذلك انطفأ شعاع عراقي آخر كان يحلم بوطن يحتضنه قبل أن تأتيه المنية في الغربة القاتلة.

وعلى الرغم من تعدد العناصر القيمية والمعنوية التي تجمع بين الفضاء الافتراضي للحدث ومفهوم الزمان والمكان الذي جعل الفقيد منصور البكري يتكيّف مع ما كان ينتظره في قادم الأيام. إلا أن خبر رحيله "المفاجئ" على قدر كلمة "موت" وأثره البالغ، لم يكن للجميع مفاجأة بالمعنى العام لفاجعة نهاية الحياة، بقدر ما كان خبراً مؤلما وحزيناً بلا حدود !.. وعلى ما يبدو أن منصور كان أسير أحاسيس دفينة لم يتمكن من اختزالها أو تجنبها. يقاوم للعيش ومواجهة النهاية بانضباط وهدوء. بفضل إرادته وعناده وهو يصارع المرض، تمكن من إعطاء الأمل لنفسه للبقاء على قيد الحياة بأقصى قدر ممكن. لكن كم كان صعبا عليه أن يواجه تراتيل هواجس وآلام دون المقدرة لوضع حدٍّ لها؟. بيد أن شقيقته السينمائية آمال البكري التي حرصت على الاهتمام بشقيقها، كانت تترقب عن كثب وخوف المشهد الدرامي لحياة منصور.. كتب لي في 9 أكتوبر رسالة على الموبايل لم أستطع الاطلاع عليها إلا بعد خروجي من المشفى في 6 نوفمبر يقول: ((عزيزي عصام بعد التحية والسلام أتمنى لك صحة ومزاج عال للعمل... أختي آمال وهي سينمائية تسألني إذا كنت أرهق نفسي في العمل فكتبت لها التالي وأحب أن تتطلع أنت عليه... أجمل تحياتي..)) ((كل ما عملته عزيزتي آمال بكل حب ومزاج وبدون شترس "إرهاق" وبتفكير مركز وبهدوء، الذي يزعجني دائما تصرفات الناس معي لأني اعمل باحترافية عالية وعارف شغلي وهم هواة ويخبصون بالشغل فيتلفوا أعصابي... عصام الياسري هو الوحيد الذي أعمل معه بكل راحتي ومزاج لأنه محترف بالعمل المهني والصحفي والإعلامي وناطيني كل راحتي بالعمل)). يبدو لي كان منصور يسابق الزمن، وربما كان يخاطبنا في كلمة "وداع مؤثرة" لا تفصل بينه وبين محيطه المهني والبشري، قبل مرتبة مغادرته الحياة إلى عالم آخر ومن ثم الوداع الأخير وقداسته .

برحيل الفقيد الفنان التشكيلي المتخصص برسوم "الكاريكاتير" منصور البكري، خسرنا وخسر العراق والثقافة والفنون العراقية مبدعا وطنيا لا يعوض. تشتمل أعماله ومسيرته الفنية، أو ما يتميّز به أسلوبه في فن رسم "الكاريكاتير" تجليات وظواهر إبداعية قل نظيرها. كما كان طرفا في سرد الأحداث ليجسد في الغالب في أعماله مكانة الوطن وحياة المجتمع. حصل على شهادات تقدير عربية وعالمية، منها شهادة تقدير (مدونة تحتوي على الكثير المعلومات والصور قدمها له في 28 أكتوبر 2017 منتدى بغداد للثقافة والفنون برلين. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التكريم جاء بعد فوزه بالجائزة الأولى في المعرض الدولي للكاريكاتير الذي أقيم في 21 تموز 2017 في مدينة "أغادير" بالمغرب، وكان من المقرر أن يحدث قبل ذلك، حيث كان يحلم بهذه المفاجأة وملاقاة هذا الفضاء الوافر بشخوصه الإبداعية والثقافية. لقد أسدل القدر الستار على الفصل الأخير من تراجيديا خاتمة فنان كان بعيداً عن وطن انكفأ إزدهاره.

ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أقول: بأنني لا أريد أن أتحدث عن السنوات الطويلة من العلاقة المثمرة بيني وبين منصور، ولا عن أوضاعه الصحية التي تفاقمت في الآونة الأخيرة وأدت إلى معاناته الجسدية ومن ثم قرب أجله، وهو المحب للحياة . انما عن طبيعة منصور الإنسان، فإنه كان رجلا ذا حس وطني لا يستكين، ولم يكن بإمكانه إلا أن يكون صريحا واضحا في آرائه ومواقفه في الكثير من القضايا التي تعني وطنه وشعبه ومستقبلهما. رجلا ملتزما صاحب مبادئ وقيّم ظل مخلصا لها طول حياته.. زميلا وصديقاً عزيزاً دمث الخلق، كثير الجود والنبل والعطاء.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top