د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
ثمة مبنى بغدادي، ارى في عمارته نموذجاً من ضمن خيرة نماذج عمارة الحداثة العراقية. ورغم تميّز اسلوب عمارته، ومقاربته التصميمية الرائدة،
وحداثته المتجلية في انصع تمظهراتها، بالاضافة الى موقعه الحضري المهم في وسط بغداد، واعتباره ايقونة من ايقونات عمارة شارع الرشيد الفخمة، ومع تاريخه الذي يعود الى منتصف الخمسينات، فضلا عن دور وقيمة مصممه الذي ارسى جذور الحداثة في المشهد المعماري العراقي، رغم كل ذلك، فقد بقى المبنى اياه بعيداً عن الدرس والمتابعة، وكأنه غير موجود في المشهد، وكأن عمارته المميزة والاستثنائية في جماليتها ورائديتها لا تستحق الاشارة اليها، ولا تستوجب التعاطي نقديا مع مقاربته الاسلوبية المثيرة!
واول الذين يمكن ان يوجه العتب لهم لهذا الاغفال والاهمال، هو "لي شخصياً"، انا: المغرم بتلك العمارة، والمولع بمقاربتها التصميمية المعبرة، والمعجب و"المريد" لمصممها! اقول هذا، لاني لطالما اعترفت باني مولع بالعمارة بشكل عام، وقد كتبت يوما باني ".. مفتون بالعمارة: منجزاً وممارسة. وربما كان هذا الافتنان باعثاً وراء تطابق الاهتمامات المهنية مع الشخصية، ما حددّ بالتالي طبيعة ثقافاتي وعين اتجاهاتها. وهذا كله اثر تأثيراً عميقاً على اسلوب تلقي الناتج المعماري وطريقة التعاطي معه، الذي انطوي على تجاوز محدودية النظرة "التكتونية"Tectonic له، الى ما ابعد منها، الى مفاهيم القيم والخبرات، فضلا على مداليلها الثقافية التى يشي بها ذلك المنتج. بتعبير آخر، لا انظر الى الناتج المعماري بصفته وليد اشتراطات نواحٍ تركيبية او وظيفية او حتى جمالية، وانما اعتبره حصيلة نشاطات معرفية عديدة، قد تكون متباينة في نوعيتها او مختلفة في اختصاصاتها، كالمعارف البيئية والتاريخية والفلسفية والانثروبولجية والاقتصاد السياسي وعلوم الاجتماع وحتى تأثيرات مضامين الحكي الشفاهي وولع الناس في مزج الاساطير بالواقع!. وهذه النظرة للناتج المعماري تسوغها طبيعة الفعل المعماري ذاته، الذي يجمع في دفتيه النقائض: فهو من ناحية "فعلا" علمياً، وفي آخرى "فعلا" فنياً، بمعنى انه قادر على جمع ما لا يمكـن جمعـه؛ انه الصيف والشتاء على السطـح الواحـد! فمن يقينيـة العلم وماديته الى آفـاق التصور الواسعة المتخمة بها المخيلة الانسانية، تتبدى، بالنسبة اليّ، ماهية الفعل المعماري، الفعل الخالق لذلك النتاج التصميمي والمبدع لنماذجه المتميزة..". ومع هذا، يبقى السؤال قائما، هل يوجد مُسوّغ مقنع او تبرير وافٍ لتلك "السهوة" في عدم الاشارة الى ذلك المبنى؟! بالنسبة اليّ، كنت اعرف قيمة هذا المبنى واقدر عالياً أهمية اسلوب نهجه المعماري. ولكن بباعث ولعي الخاص به، واهتمامي بعمارته، كنت أُجل الكتابة عنه متطلعاً ان افرد له ، يوما ما ، مساحة نقدية تليق به وبعمارته الحداثية. (رغم اني تناولت ذكر عمارته (ولو بصيغ سريعة)، في كتابي الاخير عن "عمارة الحداثة في بغداد). هل هذا مبرر كاف للسهو والتغاضي عن عدم ذكر عماره مميزة وغير مسبوقة في البيئة المبنية المحلية؟ -كلا بالطبع! فتعدد الكتابات وتكرارها يعملان على زيادة الحضور لتلك العمارة، ويؤديان في النتيجة الى "استرداد" المبنى لقيمته المنسية.
عموما، نحن نتحدث عن مبنى المقر الرئيسي "المرحلة الثانية" لمصرف الرافدين في الشورجةـ والمطل على شارع الرشيد بوسط بغداد.، والذي يرجع تاريخة الى مابين 1953 -1955 والمصمم من قبل الكابتن "فيليب هيرست" Philip Hirst ؛ الذي لعب دورا اساسيا ومؤثرا في ارساء عمارة الحداثة العراقية في مرحلتها الثانية بعد الحرب العالمية الثانية.
مع الاسف لا نعرف الكثير عن "الكابتن فيليب هيرست" الانكليزي. ندري بانه غادر العراق قبل ثورة 14 تموز 1958، بعد ان عمل في مصلحة السكك الحديدية العراقية لفترة امتدت لعقد من السنين ونيف. كانت دائرة السكك وقتها تتمتع باستقلالية ادارية نوعا ما عن ضوابط دوائر الحكومة العراقية الآخرى. صمم هيرست اثناء وجوده في السكك عدة مبان، مثل مبنى محطة قطار بعقوبة (1945) <بالاشتراك مع المعمار عبد الله احسان كامل> (1919 – 1985)، و"دار الاستراحة الملكية" في مصيف سرسنك في شمال العراق (1947) وغير ذلك من المشاريع الاخرى. وقد عمل في السكك ايضا ومساعدأً لهيرست، عبد الله احسان كامل: المعمار الحداثي الشاب (الاتي توا من ليفربول: "معقل" غالبية المعماريين العراقيين الحداثيين الذين اكملوا دراستهم في مدرستها المعمارية وتأهلوا كمعماريين). ومنه، من عبد الله، الذي زاملته في قسمنا المعماري ببغداد، عرفت عن كابتن هيرست ودوره المهم في ارساء قيم الحداثة المعمارية في المشهد المحلي. كما ان المعمارة "الين جودت الايوبي" (1921 – 2020)، اتت على سيرة "فيليب هيرست" في مقالها الذي نشر في مجلة “Architectural Design” اللندنية لسنة 1957، والمعنون "العمارة الحديثة في العراق". وفي ذلك المقال نشرت "الين" المخطط الارضي لمبنى المصرف (الذي نعود الى نشرة مرة اخرى هنا). ومع هذا تبقى المعلومات عن سيرة هذا المعمار الحداثي شحيحة. حصلت على صورة شخصية له احتفظ بها في ارشيفي التصويري. يظهر "هيرست" في تلك الصورة وهو مرتدٍ "لباس" فرقة/ جمعية < صيد الثعالب> التى جمعت يومها الوصي عبد الآله مع اصدقائه في مطاردة الثعالب وصيدها بمعية كلاب صيد مدربة، كانت تتبع احدى تشكيلات الحرس الملكي وقتذاك. وكان الكابتن هيرست احد اعضاء هذة الجمعية وصديق شخصي للوصي.
تنطوي لغة عمارة مبنى المصرف في <مرحلته الثانية> على حضور مفردة تصميمية واحدة واساسية، (واذ نشير الى "المرحلة الثانية"، فلان تصميم وتنفيذ المبنى مرّ بثلاث مراحل، الاولى كانت في نهاية الاربعينات وكانت عبارة عن كتلة بطابقين مشغولة بالطابوق، يطل مدخلها على شارع السموأل، والثانية الذي يعود زمنها الى الخمسينات، والتى نتحدث عنها في هذا المقال، وهي كتلة بارتفاع خمسة طوابق بقوام انشائي هيكلي Skeleton معمول بالخرسانة المسلحة، اما المرحلة الثالثة والاخيرة، فهي كتلة ايضا بقوام انشائي هيكلي يصل ارتفاعها الى خمسة عشر طابق وبدء تشييدها في الستينات)، اذاً تنطوي تلك اللغة على مفردة، انتقاها المعمار ليشكل تكرارها المتعدد صيغة "كلية" المعالجة التصميمية لواجهة مبناه. فالمصمم يصطفي "فورم" معين ويسعى وراء تقسيمه عبر منظومة تناسبية، تتيح له ان يرسم بها اسلوب تقطيعات هذة المفردة بحيث يخرج منها بثلاثة اقسام: مصمت، ومفتوح، والثالث مجزئ بواسطة اربعة الواح خرسانية مثبته بصورة مائلة. ولئن اصطفى "فيليب هيرست" هذة الوحدة التصميمية لمبناه البغدادي، فان عمله هذا يستحضر و"بتناص" Intertextuality واضح "اجتهادات" لو كوربوزيه (1887 -1965) في اجتراحه لما يعرف بـمفردة "كاسرات الشمس" Louvers (او Jalousie, Persienne)، التى نفذت بصورة واضحة وجوهرية في واجهة مبنى "وزارة المعارف والاشغال" (1936) في ريو دي جانيرو / البرازيل بتصميم من "كوستا" و"اوسكار نيماير" وباشراف "لو كوربوزيه". وكانت تلك المفردة التصميمية جديدة وغير مسبوقة في لغة عمارة الحداثة، واحتل عديد تكرارها، واجهة المبنى المتعددة الطوابق برمتها. وقد وظف لو كوربوزيه نفسه ذات المفردة ايضاً في مبناه المتعدد الطوابق والمخصص الى الجزائر 1938 (الذي لم ينفذ). معلوم ايضا ان كشوفات لو كوربوزيه في هذا المجال بدأت بصورة واضحة في الدارة السكنية المخصصة لتونس في بدء الثلاثينات، ففي تلك الدارة طبق لو كوربوزيه استخدام تلك المفردة لحجب اشعة الشمس الحارة المباشرة، مع تقنين دخولها في فضاءاته الداخلية المصممة. ووفقا لكثر من الدارسين فان "وحي" تشكيلات تلك المفردة، تعود بمرجعيتها الى اشكال "المشربية" او "الشناشيل"، التى "ابدعتها" يوما ما، الممارسة المعمارية البغدادية العباسية، وامست منذاك احدى كشوفات العمارة الاسلامية. وما قام به لو كوربوزيه من ثَأويـل مجتهد ومثابر لذلك الشكل الحصيف، عدّ بمثابة إيماءة احترام وتقدير لمنجز تلك العمارة التى ابدعت هذة المفردة التصميمية الفطنة والحاذقة!
يبقى "فيليب هيرست" في مقاربته المعمارية الخاصة بتصميم مبنى المصرف وفياً لقيم التيار "الوظيفي" المتمثلة في التقسيمات الثلاثية للمبنى المصمم، تلك التقسيمات التى نادت بها يوما "مدرسة شيكاغو" اعتمادا على طروحات المعمار "لوي سوليفان" (1858 – 1924)، والتي عدت لاحقاً من المبادئ الاساسية للتيار "الوظيفي". وهذا التقسيم المفترض نراه حاضرا بوضوح في "رسم" واجهة المبنى وتثبيت حدود اقسامها الثلاثة. اذ يظهر طابق اسفل المبنى القريب من الشارع بمعالجة خاصة، منحسرا الى داخل كتلة المبنى بعيدا عن خط ملكية الارض، مشكلا ممرا عريضا بجوار كتلة المبنى المرفوعة جزئياً بواسطة اعمدة خرسانية مكسوة بالرخام؛ يتصادى حضورها مع سياق ونسق اعمدة شارع الرشيد المشهورة. في حين يتحدد القسم الوسطي للمبنى من خلال تماثل المعالجة التصميمية المبنية على تكرار طوابق هذا القسم المتعددة. واخيراً، ينزع المعمار الى تأكيد القسم الثالث لمبناه من خلال معالجة تصميمية مختلفة عن القسمين تنهي امتداد الواجهة وتغلق مفردات التكوين فيها.
يذهب "فيليب هيرست" بجرأة نادرة في معالجة القسم الاخير من مبناه، نحو بلاغة تصميمية جديدة، لم تتعاطَ بها الممارسة التصميمية المحلية من قبل، بجعل الحدث "المزروع" جزءاً لا يتجزأ من مقومات عنصر غلق واجهة المبنى وتأشير نهايتها. فانشغال المعمار في ترسيخ قيمة الجزء الختامي لمبناه، ادى لتطوير امكانية ادواته التصميمية لجهة قدرة اكبر على الفصاحة و البيان. ثمة "سقيفة" خرسانية خفيفة، تحملها مساند دقيقة، مهمتها اضفاء عنصر "مختلف" في نسق منظومة الواجهة ونمطها المتكرر. كما ان وجود تلك السقيفة الخرسانية يمنح ظلاً ضروريا تحتاجه المزروعات التى تم غرسها في اعلى المبنى، زيادة في حضورية "الخاتمة" التى اجترحها، والرفع من قدر جمالية المبنى المصمم وتضمينه مداليل مُضّمرة. فلأول مرة يرى العراقيون (والبغداديون على وجه الخصوص)، زرعاً يتدلى من سطح مبنى، وكأنهم يستحضرون بهذا المرأى حكايا اسلافهم عن "جنائن معلقة" كانت قائمة في البيئة الحضرية لمدنهم القديمة!
واعترف باني "بهت"، شخصيا، وظللت لفترة فاغر فمي، متأملاً "نباتات" اعلى المصرف، عندما شاهدتها لاول مرة في الخمسينات: انا، الفتي الريفي وقتها، الذي لم يزر بغداد كثيرا ولا يعرف امكنتها بدقة، مثلما لا يفهم اصلا، حينذاك، بالشأن المعماري وبعيداً عن "اسرار" جمالياته! لم اكن وحدي مفتون بهذة المعالجة الرائدة وغير المسبوقة، فكثر كانوا يشعرون بان "شكل" المبنى وهيئته الجديدة، كانت تعبر عن "جديد" بغداد وايقاع حداثتها السريع. وكان تصوير مظهر المبنى المميز والاستثائي بمفرداته التصميمة، عادة ما يعمل كدالة للتحديث، لدى الفوتوغرافيين الذين يودون عكس واقعة "الحداثة" الحضرية ببغداد. ولا اخشى القول، بان عمارة المبنى اياه، وحتى بمرور تلك الفترة الزمنية الطويلة منذ ظهوره في المشهد المبنى، ما برحت تلك العمارة تبسط حولها اريج ذائقة الحداثة وتنشر عبيرها!
لقد استطاع "فيليب هيرست" ان يضفي (..ويضيف!) للبيئة المبنية البغدادية في تصميمه لمبنى المصرف اياه نموذجا متميزا، وان يبين للوسط المهني المحلي وللمعماريين العراقيين على وجه التحديد، وقع الامكانات الواسعة للعمارة الحديثة وما تنطوي عليه من قيم جمالية مثيرة، في الوقت الذي اظهر قدرة نماذج "العمارة الاقليمية" وإستطاعتها ان تثري ذخيرة العمارة العالمية بإضافات معتبرة. وهذا كله، في اعتقادنا، يفسر اهمية عمارة المصرف وضرورة الحفاظ على نوعية مفرداته التصميمية، كجزء مهم من ذاكرة بغداد (..والعراق) المعمارية، لا ان يتم التعاطي مع تلك العمارة بالصيغ "الشعبوية" التى رأينها نتائجها الكارثية على المبنى وعمارته، بتغليفها بمواد والوان فاقعة، تعكس "ذائقة" اصحاب القرار الجدد الذين يستثمرون احياز المبنى وفضاءاته بالوقت الحاضر!