كلامٌ عاديٌّ جداً: الشّعر سلطان

حيدر المحسن 2021/12/21 10:47:22 م

كلامٌ عاديٌّ جداً: الشّعر سلطان

 حيدر المحسن

يشبّه بورخيس استعمال العامّة للّغة بالغشّ الذي يمارسه المقامر وهو يلعب بأوراق معلّمة. الكلمات مثل أنا وأنت وأنتم هي أوراق مشفّرة هرّأها الزمن وما زلنا نلعب بها. الشاعر هو من يمحو هذه الشفرة، وهذا ما عناه مالاّرميه بقولته الشهيرة: علينا تهذيب لغة الأسلاف.

«سوف أعيد إلى الكلمات العاديّة / أوراق القمار المعلّمة لمقامر غشّاش، تلك التي ينحتها الناس، / السّحرَ الذي كان لها ذات مرّة”.

الشاعر هو من يقول أشياء أبديّة، أكثر دواما من النحاس والفضة، ومن المعدن المشعّ الذي يتوهّج أبدا. كل شيء في الوجود يراه قصيدة، الرياح القويّة، المطر، الألم، وحتى الموت. والأفعال كذلك؛ البراءة والدناءة والشجاعة والجبن. كلّ ما مرّ حقيقيّ لأنه جوهريّ وصادق.

شابّ في وجهه رقة وجسارة لا تراهما سوى في وجوه أقوى السباع. كيف تجتمع الخشونة في الطبع مع الدقة في صنع الشعر؟ كيف يتماثل الصوت الخافت مع الصاخب؟ كيف يلتمّ الوعل مع الإنسان ويصيران تمثالاً؟ ذلك هو إبراهيم الماس...

عندما يملك الشّاعر تجربته يستطيع أن يعبّر عنها بأبسط ما يمكن وبأقلّ الكلام، وهو قادر على ذلك عن طريق الصمت، وهذا الأخير يؤكد عليه الشّعر الحديث، فالسكون هو نقطة انتهاء الحركة، ومكان ابتدائها، والصمت هو فناء الكلام، ومصدره:

«الشعر صناعة الصمت»

يصدّر إبراهيم الماس مجموعته الشعرية الأولى “ليالي كويستان على العود” بهذا الشّعار. ذلك أن بإمكان القصيدة العظيمة اختصار حزمة أوراق من أعمال الفكر؛ المفردة الحيّة صورة ملوّنة، ويبدو الشّعر بالنتيجة مثل تطريز في قماش، أو سحابة من يراعات مضيئة، ورموز الفنّ هنا منتقاة ولها بُعدان وجدانيّ وذهنيّ، أرضيّ وسمائيّ.

في مثل هذه الأيّام من العام الفائت سعدتُ بصحبة الشّاعر، مع أبيه السيد مطلك الماس، في يومين اثنين صرنا نعرف بعضنا بعضا كما لو بيننا عِشرة من عقود من السنين. زرنا معرض بغداد الدولي للكتاب، ولأننا في العمر نفسه، أنا والماس الأب، تقريبا، رحنا نتحدّث عن حرب الخليج الأولى، والثانية ونحن نتجوّل بين أجنحة المعرض تحت سماء زرقاء مذهلة، ووسط رائحة شتاء دائم. كانت تحضرنا في تلك السّاعة المعارك التي جرت في طول البلاد وعرضها. كان أمرا متوائما مع اللّحظة، ومتنافرا في الوقت نفسه. الحرب والكتب. الخراب والنّماء. الخريف والشّتاء معا، ثم يحلّ فصل الرّبيع. والفصول الثلاثة يعرفها الابن، إبراهيم الماس، بفضل تربية الأب وتعليمه، ويعلم بالإضافة إلى ذلك كلّ دقيقة من أيّام الصّيف. إنها المرّة الأولى التي يزور فيها الماس الابن مدينة بغداد:

كان ينبغي أن آتي بغداد في السبعينات / ويكون لديّ سيّارة «بيك آب»! /كان عليّ أن أدرس اللّغات في “المستنصريّة”/ وتحبني طالبةٌ من العاصمة.

لها عينان صافيتان كالدّحلِ في يدِ الأطفال / وساقان نحيلتان كعودي ثقاب.

وتنّورة قصيرة كعقب سيجارة "مارلبورو" / وفي إحدى المناسبات، من أيّامِ الربيع / نذهبُ في سفرة عامّة إلى "حمرين" / بينما يشكّل الطلّابُ دائرةً/نبتعدُ عنهم. نجني ثمار الصّواعق في البراري/ البراري التي بين ركبتيكِ!

هل يبحث الشّاعر عن الحقيقة؟ وما حاجته إليها وهو يمسك بمفاتيح الجمال، فالجميع يطلبون العون من الثوب المزركش ومن سحابة اليراعات الملوّنة مثل حاجتهم الطبيعية إلى الهواء والغذاء والماء. لهذا السبب يصاحب كلَّ تأليف أدبيّ قلقٌ يشاء له صاحبه أن يتشبّه بالخوف من الجنون. يمسك الشّاعر بالحقّ الأعلى ويسير في هذا العالم ببطء وفخامة مثل ملك عربي، الفشل لا يؤدّي بصاحبه إلى الفاقة، وإنما إلى فقدانه مملكة من الأرض والسّماء والأنام.

يظلّ الشّعر في حياتنا أساسيا، لأنه ليس تسلية أو مادة للعلم، كما أن له سطوة علينا مثلما لسلطان الجوع أو النوم حين يحضران. نحن نعطي الشّعر حقّه كي نبقى أحياء.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top