د. أحمد عبد الرزاق شكارة
في السابع عشر من كانون الاول / ديسمبر 2021 صدر عن المكتب الاعلامي للرئاسة العراقية مشروع بيئي «لإعادة إحياء وادي الرافدين» من خلال إطلاق مبادرة إستراتيجية تتمحور حول مواجهة تحديات التغيير المناخي وإحياء الآمال الوطنية هدفها الجوهري إنتاج تحولات بنيوية إيجابية للعراق ولمنطقة الشرق الاوسط معا.
مبررات المبادرة تستند إلى ضرورة ترجمة الحالة الاستثنائية للطؤارئ الكونية البيئية وتحويلها إلى فرصة فريدة للارتقاء بالاقتصاد السياسي والمجتمع العراقي- ضمن محيط منطقة الشرق الاوسط - من مرحلة تتسم بالمخاطر الوجودية الاخذة بتهديد كيان المجتمع العراقي بكل إطيافه على أمتداد ساحة الجغرافية السياسية للعراق إلى مرحلة حيوية مضمونها إنقاذ وإنماء العراق وأهله من خلال إنجاز متطلبات اساسية للتنمية الانسانية المستدامة بحلول 2030-2050. إن مرحلة تشخيص الحالة العراقية الاستثنائية للبيئة مسألة لابد منها إذا ما أردنا تقديم وصفات للعلاج ناجعة ومستدامة نسبيا. التقارير الاخيرة الصادرة عن برنامج الامم المتحدة للبيئة UNEP–تشير إلى أن العراق يعد واحدا من أكثر بلدان العالم المعرضة لمخاطر التغيير المناخي محتلا المرتبة الخامسة لإكثر الدول المعرضة لازمات بيئية – أنسانية : نقص شديد للمياه، عدم توفر موارد غذائية كافية و الاخطر درجات للحرارة العالية جدا التي تؤثر سلبا على كلقطاعات التنمية الانسانية الشاملة.
إن أستمرار تردي الاوضاع البيئية – الانسانية ضمن إطار مستوى نوعي متدني للمعيشة Low Quality of Lifeينذر بتدهور يشكل تهديدا وجودي الحياة الملايين من العراقيين ثالبا حالة الاستدامة ومضعفا للامن الوطني للعراق. المؤشر الاساسي للدورة المناخ الكونية يرجحإرتفاعا متصاعدا حادا لدرجات الحرارة المئوية، إذ من المتوقع أن ترتفع مابين 3 إلى 5 مقارنة بمستوياتها في عقد الستينيات ما يخلق أزمات إنسانية - بيئية مركبة معقدة نتيجة إفتقاد الحكم الرشيد Good Governance حيث فشلت الاجهزة الحاكمة في النظام السياسي بإزالة كافة الممارسات والمعوقات الادارية «البيروقراطية»مقترنة بعدم تطور تقني هادف جاد لأصلاح مؤسسي حقيقي لمنظومة الدولة.النتيجة المتوقعة إفتقادما يحتاجه شعبنا العراقي من خدمات أساسية لبنى تحتية متطورة ومشروعات تنموية خضراء مستدامة (ماء، كهرباء، طاقة متجددة خضراء مستدامة، سكن لائق حديث، نقل سريع وإتصالات رقمية).
التقرير الرئاسي اشار إلى عدد محدد من المؤشرات المعيقة للتقدم البيئي-الاقتصادي– المجتمعي ولكن دون تقديم منهج إستراتيجي متكامل . من المؤشرات التي تنذربنتائج خطيرة ستنعكس على حياتنا بل وعلى بقائنا : اولا : %54 من العراق سيكون تحت هيمنة تهديد خطير سمته الاساسية ترد مستمر لخصوبة الاراضي الصالحة للزراعة بسبب إنتشار ظاهرة الملوحة وغيرها من أمراض التربة، ثانيا: تنامي حالة من التصحرالزاحف على ما يقارب من %39 من مجمل الاراضي الصالحة للزراعة. يمكننا أن نضيف عاملا ثالثا يؤثر سلبا على مسار حياتنا المجتمعية – الاقتصادية والبيئية ينسب إلى دور المحيط الخارجي ممثلا بالتحكم بالسياسات المائية التي تتبعها الدول المهيمنة على منابع مياه دجلة والفرات (تركيا) او مسارات مرور النهر وشبكة الانهار الفرعية (سوريا – الفرات وايران – الكارون)وصولا لمحيط منطقة شط العرب حيث نشآ مايعرف بمنطقة اللسان الملحي الملوث والزاحف بقوة - لداخل العراق – من منطقة الخليج العربي مقلصا كثيرا من تدفق كميات المياه العذبة. النتيجة المتوقعة ان تضحى البصرة - التي تطفو على بحر من إحتياطات نفطية لا غنى عنها لبناء العراق- من اكثر المناطق معاناة من شح المياه العذبة الصالحة للشرب. ضمن المنظورالستراتيجي، من المتوقع أن يواجه العراق وفقا لمعلومات وزارة الموارد المائية نقصا كبيرا للمياه من نهري دجلة والفرات يصل إلى 10.8 مليون متر مكعب من المياه بحلول 2030 كنتيجة طبيعية للعوامل التالية : غياب الرؤية الستراتيجية الوطنية، تغيير مناخي عالمي قاسي، عدم تكامل وتنسيق السياسات المائية – البيئية الاقليمية و تنام خطير لإزمة كوفيد –19 بكافة متحوراتها (دلتا وأوميكرون). من هنا، فإن ما لايقل عن سبعة ملايين عراقي سيستمرون بمواجهة التكاليف المادية والاعباءالأنسانية التي- إن لم تعالج جذريا –ستنعكس سلبا على نوعية حياة المواطنين العراقيين مع كل التداعيات الخطيرة بضمنها موجات نزوح جديدة لطبقة «الفقراء والمحرومون» ومن شريحة “الطبقة الوسطى” إلى دول العالم.
من هنا،لابد من بناء دراسات علمية شاملةرصينة ذات بعد إستراتيجي للمراحل الانتقالية - المستقبلية بعيدا عن إستهلاك متصاعد للطاقة الاحفورية (نفط وغاز) التي بسببها تتضاعف نسب نفاذية ثاني أوكسيد الكاربون والميثان في الجو إلى مرحلة تسبب نوعا من الانسداد الاقتصادي – السياسي – المجتمعي – الثقافي في عقلية صناع القرار. إن تحليل الاوضاع الراهنة للتغيير البيئي مسألة لايمكن فصلها عن التفكير الاقتصادي– المجتمعي النفعي الهادف لتلبية إحتياجاتمتنامية للسكان الذين تصل أعدادهم حاليا إلى ما ينيف عن ال38 مليون نسمة وفي عام 2050 متوقع أن تصلاعدادهم إلى حدود 80 مليون نسمة، مسألة تتطلب رؤية إستراتيجية عملية ابداعية للتغيير المآمول.
الرؤية الستراتيجية يجب أن تبلور خارطة طريق للنشاطات البيئية بصيغة مبادرات «برامج» تعالج تحديات التغيير المناخي في إطار تنظيمي – قانوني ركائزها الرئيسة : أولا : الخروج من مآزق التبعية لاقتصاد ريعي قائم على آحادية الاستخدام والانتفاع من عوائد الوقود الاحفوري (نفط، غاز) إلى أقتصاد يتسم بالتنوع في مصادر الدخل والطاقة المتجددة كم رسمت معالمه الورقة البيضاء، وثانيا: العمل الحثيث على تعضيد التوجه المستقل نحو تلبية مطالب مرحلة التنمية الانسانية المستدامة في ظل إطار تعاوني – تنسيقي تنموي (اقليمي ودولي).
9 برامج جوهريةللمبادرة:
اولا: إنعاش الغابات المعروف ب”جنة عدن”
يهدف البرنامج ليس فقط لتعويض الخسارة الفادحة من اشجار النخيل التي وصلت في مرحلة تأريخية لعدد إجمالي يناهز ال30 مليون نخلة فقد العراق منها بحدود ال 3/2 بسبب الحروب والتجريف ولكن لمضاعفة اعدادها لتصل إلى رقم قياسي «بليون نخلة في المدى البعيد». إن إنجاز المرحلة الاولى يفترض زراعة مابين 30-20 مليون نخلة خلال العامين القادمين ليس عملا يسيرا يمكننا القطع به. الاكيد أن إنجاز باهرا كهذا مسألة إن تحققت فأنها تعني تقدما زراعيا مشهودا ليس فقط في إنتاج التمور بل ومن ثمار اشجار الحمضيات المتنوعة التي تنمو في «ظل عمتنا النخلة». علما بإن شروط نجاح مثل هذا البرنامج تعتمد على مدى الاستخدام الكفوء المستدام للتقنيات الحديثة ذات الانتاجية العالية. الامر الذي سيعود بفوائد جمة مادية ومعنوية للعراق وللمنطقة من خلال إطلاق مبادرات هدفها إندماج المشروع العراقي مع مشروعات طموحة مخطط لها جيدا من قبل بعض دول الخليج العربي (السعودية والاماراتتحديدا) التي تسعى إلى زراعة ما يقارب ال50 بليون نخلة. اما تمويل البرنامج فيستند على تنوع الجهات الراعية والممولة : عوائد الدول ذاتها، المانحون والمستثمرون الدوليونوالاقليميون، والصناديق العالمية للبيئة الخضراء.
ثانيا :تنمية «الحدائق العامة» الخضراء
يوفرتنفيذ برنامج الحدائق العامة الخضراء جرعة مقوية لبرنامج الغابات «جنة عدن» ما حدى وزارة البيئة العراقية أن تحدد أكثر من 80 موقعا مهما مما يعتبر محميات طبيعية للنبات وللحيوان flora and faunaيجب الحفاظ عليها بصفة مستدامة للاجيال القادمة مثلها كمثل نظام الاوقاف الاسلامية المؤسس لحماية مواقع التراث الاسلامي. من النماذج المختارة المقترحة للتطبيق في بغداد مشروع يفترض أن يعهد لإمانة العاصمة وللمؤسسات الحكومية الرديفة تحمل مسؤولية إنجازه يربط مابين المساحات الخضراء لمطار المثنى، حديقة الزوراء ومعسكر الوشاش. المعادلة بسيطة : كلما تضاعفت المساحات الخضراء توفرت إمكانية أكبر للحصول على نوعية عالية من الهواء النقي. علما أن وزارة البيئة اضحت معنية بدعوة دوائر التخطيط ولجنة الاستثمار الوطنية لوضع معايير بناء موحدة للمباني العمرانية تعتمد ما يقارب من %25 من مساحتها الكلية “رقعة خضراء».
ثالثا: إدارة مياه النهرين
برنامج تاتي اهميته من ضرورة تحسين كفاءة نظام الري تخفيفامن المخاطر الناجمة عنتقلص كميات المياهالمخصصة للقطاع الزراعي هذا من جهة، ومن منظور مقابل استمرارالتعجيل بعملية تحديث إستراتيجية الادارة المائية التي بقيت دون تغيير يذكر. نهج خطط له مسبقا معتمدا تأسيس سدود تقع مواقعها على قمممنابع مياه نهري دجلة والفرات منعا لإضرار محتملة من حالات الفيضانات او السيول الجارفةالتي تهدد الحرث والنسل. علما بإن الاستعانة بإدوات عالية التقنية لمعالجة الشأن المائي من شأنها تقليص معدلات الطلب على المياه مابين 40-30 % ما يؤدي للحفاظ على كميات كبيرة من المياه التي يمكن تخزينها والاستفادة منها مستقبلا.
رابعا: تنقية مياه المجاري
إن القاء نفايات المعامل والمساكن في الانهار الرئيسية يشكل خطرا كبيرا على البيئة النظيفة مهددا بكارثة بيئية محتملة خاصة وان اكثر من 5 مليون قدم مكعب من مياه المجاري يتم هدرها يوميا دون وجود مخطط استراتيجي للحفاظ عليها. ترتيبا على ذلك تاتي أهمية تكاثف الجهود الحكومية و التابعة للقطاع الخاص بضرورة تخليص بلادنا من ممارسات سلبية لاتجلب للسكان سوى مزيدا من الخسائر الانسانية ولاترك للاجيال القادمة إلا مزيدا من الامراض والاوبئة والدمار.
خامسا : بناء السد / الجسر العظيم لشط العرب
إن الهدف الرئيس من تأسيس مشروع السد – الجسر العظيم لشط العرب هو لتقليل الاضرار الناجمة عن أقتحام مياه الخليج العربي محملة بلسان ملحي يلوث المياه العذبة لشط العرب. للمشروع فوائد جمة على صعيد التحكم بالادارة المائية حماية للثروة الزراعية والسمكية ولنوعية المياه. ترتيبا على ذلك، لابد من عقد اتفاقات اقليمية ملزمة بين العراق ودول الجوار (ايران، تركيا وسوريا) منعا لحصول ما لايحمد عقباه من تدفقات للمياه حاملة تأثيرات للتلوث البيئي و اضرارا تخص ملوحة التربة والمياه العذبة.
سادسا: تقنيات التمدن المميز الحديث
أن تقنيات التمدن / التحضر قد وصلت معدلاتها في العراق إلى ما يفوق نسبيا %70 بصورة يستدل منها ارتفاع المعدل السنوي للتمدن او التحضر إلى مايقارب ال%2.5 يرافقها اللجوء إلى حلول بيئية خضراء تنمي محيطا نظيفا خاليا من التلوث وأكثر كفاءة في البناء أوفي استخدام الطاقة. وضع يفرض بالضرورة إقتراح تشريعات ملزمة تعزز كفاءة مشروعات البناء في إطار معايير ومستويات قياسية للحفاظ على الطاقة بصورة توفر سكن بيئي أخضر منخفض التكاليف في بغداد وفي المحافظات العراقية الاخرى.
سابعا: تدوير وتحويل المخلفات إلى طاقة
إن تجربة محافظة السليمانية الناجحة تستند لجهود مكثفة اعتمدت التنسيق بين المصانع المحلية للاسمنت في المحافظة مع السلطات المحلية لأستقطاب غاز الميثان الناجم عن تحلل مواد بايولوجية، إضافة لتدوير مخلفات البلاستيك تقليلا للطلب على الطاقة.
ثامنا: استقطاب غاز ثاني اوكسيد الكاربون
العراق يعد الدولة الثانية بعد روسيا مسؤولة عن نفاذية الغاز الطبيعي المصاحب لأحتراق النفط (أكثر من %40 من مجمل النسبة الكلية الوطنية لنفاذية غاز ثاني أوكسيد الكاربون) ما يستدعي تقليص مساحة وحجم نفاذية غاز ثاني اوكسيد الكاربون والهدف ولاشك يدور حول إنتاج طاقة نظيفة ضمن إطار عملية الارتقاء النوعي بالمستوى البيئي بعيدا عن مختلف انواع أجواء التلوث البيئي. جهود إن أحسن الاستفادة منها ستعزز من الارصدة المالية الحكومية كما ستمنح البلاد فرصة لتصدير الطاقة ولاستغلال فرص مستقبلية لتصديرها (إن أمكن). تقنيات الهايدروكابون ستسهم ايضا بتخفيف كبير جدا من معدلات التلوث البيئي الناجم عن نفاذية غاز ثلني أوكسيد الكاربون في حالة تطبيقها.
تاسعا:تفعيل الطاقة الخضراء
اخيرا المستقبل يبشر بالخير في حالة ولوج عصر تقنيات الطاقة المتجددة وعلى رأسها الاستفادة من طاقة الشمس والرياح وغيرها. لعل الطاقة الشمسية تعد من افضل انواع الطاقة المتجددة كون العراق يقع في موقع مناسب جدا لسطوع الشمس واستمرارها طيلة اشهر عدة دون انقطاع. كل الامر ان تتحول من طاقة كامنة إلى طاقة حقيقية أنتاجا وتوزيعا على كافة اقاليم العراق ما يستدعي توجيه جزءا من استثمارات الطاقة بإتجاهها مع مستثمرين أجانب، مسألة تم اقرارها في اجتماع مجلس الوزراء في يونيو 2021 حيث قدمت عطاءات لتاسيس مشروعات للطاقة الشمسية مايقارب 12000 ميغاوات على المدى الستراتيجي البعيد. حاليا للعام 2021 ستطرح عطاءات لإنتاج مايقارب 755 ميغاوات من الطاقة الشمسية توفر لاقليم الفرات الاوسط. مشروعات واعدة بحق بإنتظار التطبيق السريع والفعال لعقود مهمة مع الصين والمانيا وغيرها فهل يتحقق المآمول؟ مع ذلك يبقى التفاؤل النسبي لانصيب له طالما تبقى المبادرة في إطار بيئي منفصل عن تطبيق إستراتيجية شاملة حقيقة لوادي الرافدين للتنمية الانسانية الدائمة تنهي الفساد كليا والبيروقراطية المعيقة لانتعاش الاقتصاد السياسي المنتج المثمر.
اترك تعليقك