ميشيل عفلق واستنساخ الإيطالي مازيني
د. حسين الهنداوي
في مقالة بعنوان “الإسلام والدعاية النازية” نشرت في 10 نيسان 1939 بمجلة “الرسالة”، كتب كامل محمود حبيب ما يلي:
«اعلن الهر غوبلز وزير الدعاية في الرايخ ان خمسة وعشرين الفا من الألمان سيعتنقون الإسلام، والمسلمون في اقطار الأرض يغتبطون ان يهتدي الى دينهم هذا العدد الضخم من أعداء السامية».
كذبة غوبلز هذه أبشع من ان يصدقها أحد لكنها تكشف عن ضخامة الدعاية الهتلرية الموجهة الى المسلمين والعرب خلال الحرب العالمية الثانية، ما جعل حبيب يستدرك قائلا: “لكن اعلان هذا الخبر على لسان وزير الدعاية النازية يشككنا في ايمان هؤلاء الاخوة، ويحملنا على ان نظنهم فرقة من الجيش صدرت اليها الأوامر بالقيام الى (مهمة حربية) بهذا السلاح وعلى هذه الصورة. وقد علمنا نابليون وفلبي ولورنس ان اعتناق الإسلام قد يكون في بعض الأحيان أقصر الطرق الى الغاية الاستعمارية».
هذا الاستدراك يكشف، بلا ريب، وجود وعي مبكر بالغايات الاستعمارية وراء الدعاية النازية لكسب المسلمين والعرب الى جانب النظام النازي. الا انها كانت دعاية مؤثرة مع ذلك اذ وجد الكثير من يفضل هتلر على غيره من الزعماء الغربيين في مختلف أنحاء العالم ومنه العالم الإسلامي. ويخبرنا عفلق نفسه خلال حديث في اجتماع لطلبة المغرب العربي في 1955، انه “وجد دوما في البلاد العربية مئات من الناس كانوا يتبنون النظرة النازية حتى قبل ظهور النازية نتيجة للجهل” وخاصة أولئك الذين اعتقدوا بإمكان تحقيق أهدافهم السياسية بمساعدة المانيا الهتلرية لهم ولا سيما للتخلص من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني والزحف الصهيوني على فلسطين، ومنهم مجموعة مهمة من الشخصيات السياسية العربية ذهبت الى المانيا لهذا الغرض في الفترة الهتلرية. وتفيد معلوماتنا أن اهتمام هؤلاء الضباط والسياسيين العرب بالقوة الألمانية في تلك الفترة لم يتعلق بأي قناعة بالأيديولوجيا النازية، لكن معظمهم كان يأمل أن يؤدي انتصار المحور الألماني-الإيطالي إلى استقلال الدول العربية من فرنسا وبريطانيا، وقد حدثت مفاوضات بين وزارتي الخارجية الألمانية والإيطالية حول هذا الأمر. ولم يكن القوميون العرب الوحيدين الذين أقاموا في برلين خلال فترة الحرب العالمية الثانية، بل كانت ألمانيا تشجع وتدعم كل الحركات المعارضة للحكم البريطاني والفرنسي، ولذا وُجدت فيها قيادات من الهند وإيرلندا وغيرها من الدول التي كانت تحت الحكم الاستعماري الفرنسي أو البريطاني.
اما أهم الشخصيات التي كانت في برلين في تلك الفترة، فهي إضافة لفوزي القاوقجي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق رشيد عالي الكيلاني، ومفتي القدس أمين الحسيني، وأيضاً الصحفي السوري منير الريس وغيرهم. وكلهم لعب دورا في بلورة أفكار الرعيل الأول من القادة البعثيين ولا سيما عفلق والبيطار اللذين اشتركا في عام 1941، بتشكيل تنظيم سياسي قومي باسم “الإحياء العربي”، وجاء في طليعة بياناته إعلان تأييد ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد البريطانيين في ذلك العام تحديدا.
الا ان تأثير هؤلاء على التوجهات القومية الأولى لميشيل عفلق سبقه اطلاعه وتأثره القوي بالافكار القومية الأصولية الإيطالية والألمانية والتي انعكست صراحة في كتاباته الأولى رغم ما يزعم بشكل غامض من انه كان ناشطا شيوعيا في مطلع حياته السياسية ثم قطع علاقاته بالحركة الشيوعيّة لاسباب مجهولة كالاستياء من بعض مواقف الحزب ِالشيوعيِّ السوريِّ حول السياساتِ الاستعماريّة الفرنسيّة او عدم تقبل بعض الأفكار الفلسفية الماركسية بشأن تفسير الوجود والتاريخ والمجتمع.
وميشيل عفلق يعترف ان للفلسفة الألمانية “فضل علينا في توجيه فكرنا لما هو أعمق من الظواهر المادية والعلاقات الاقتصادية في تفسير التاريخ ونمو المجتمع، وأنها كانت معدلة لأثر الفلسفة المادية فينا”. وبالفعل فقد سعى البعثيون الاوائل، كالفاشيين الأوروبيين الأوائل وغيرهم من القوميين المتطرفين، إلى الجمع بين مختلف التيارات القومية والاشتراكية ما اسفر عن تشكيل نوع جديد آخر منها. فعناصر العقيدة البعثية، مستلهمة من خليط هجين من مفاهيم فاشية وأخرى اشتراكية تقليدية وثالثة غيبية كما انها أُنسنت وشُذبت وعدلت مع مرور الوقت والاحداث. وقد لوحظ ان طبعة كتاب (في سبيل البعث) – وهو خطب ومقالات ميشيل عفلق- لعام 1974 تختلف عن طبعة عام 1959، بسبب حذف افكار عفلق الاولى المتأثرة بالفاشية الاوربية آنذاك.
وفي كتابه «البعث» الصادر عن دار النهار ببيروت في عام 1969، يؤكد أحد اهم مؤسسي التنظيم البعثي في سوريا وأوائل قادته في منتصف القرن الماضي السياسي الراحل سامي الجندي (1921-1995)، ان زكي الارسوزي المهتم بانشاء حزبه السياسي القومي العربي الخاص، عقد اجتماعا في 29 تشرين الثاني 1940 حضره ستة اشخاص فقط وانتهى بتشكيل تنظيمه الجديد باسم (البعث العربي)، فيما شكل ميشيل عفلق وصلاح البيطار تنظيما آخر باسم حركة (الاحياء العربي) والذي راح هو الآخر يصدر بياناته تحت اسم (البعث العربي) كما كثف عفلق نشاطاته الى حد اجتذاب غالبية أعضاء حزب الارسوزي الى حزبه الذي تغيّر اسمه الى “البعث العربي” اعتباراً من 1943، مؤديا الى مزيد من التدهور في علاقة التنافس على القيادة بين عفلق والأرسوزي الذي اتهم عفلق بسرقة اسم حزبه ومنطلقاته.
تلك المنطلقات البعثية، كما يؤكد سامي الجندي نفسه، تنهل بشكل صريح ومبكر من الايديولوجية النازية مشيرا الى ان بدايات مؤسسي حزب البعث عبّرت عن “تأثّر بالاتجاه النازيّ سياسيا، وبالرومانطيقية أدبيّا، وبالباطنية الصوفيّة والطائفية مذهبيا ودينيا”. ويضيف الجندي موضحا: “كنا عرقيين معجبين بالنازية نقرأ كتبها ومنابع فكرها وخاصة نيتشه (هكذا تكلم زرادشت)، وفيخته (خطابات الى الامة الألمانية) و هـ. أ. تشمبرلين (نشوء القرن التاسع عشر) وداره (العرق). وكنا اول من فكر بترجمة (كفاحي) – كتاب هتلر- مشيرا أيضا الى ان “من غرائب الصدف اني كنت ابحث عن “اسطورة القرن العشرين” لروزنبرغ فلم اجد في دمشق الا نسخة بالفرنسية لموجز عنه عند الأستاذ ميشيل عفلق استعرتها من احد تلاميذه”. (ص27).
فمن المؤكد لدينا ان عفلق تأثر بشكل خاص بالتجربة السياسية وحتى الشخصية لزعيم حركة الانبعاث الإيطالي جوزيبي مازيني Giuseppe Mazzini (1805-1872) التي نقل افكارها وحتى أهدافها إلى الواقع العربي عبر استيراد حتى شعارها وأهدافها الثلاثية وهي (الوحدة - الحرية - الاستقلال)، التي تحولت الى (الوحدة- الحرية الاشتراكية) لدى عفلق وحزبه. ومنه أيضا اخذ اسم ومفهوم البعث لحركته.
وجوزيبي مازيني مفكر وسياسي ماسوني إيطالي لقب بـ”روح إيطاليا” لدوره الرئيسي في ولادة الحركة القومية الإيطالية الحديثة وفي قيام الدولة الإيطالية المستقلة والموحدة بعد ان كانت حتى مطلع القرن التاسع عشر، مجموعة دويلات تحت سيطرة القوى الأجنبية ولا سيما الإمبراطورية النمساوية التي كانت تسيطر بشكل مباشر على الجزء الشمالي الشرقي من إيطاليا والذي يغلب على سكانه اللغة الإيطالية كما كانت تعاني من الاستبداد الاقطاعي والامتيازات الأرستقراطية والسلطة الدينية. كما أسهمت أفكاره الوحدوية والجمهورية في تعزيز الحركة الديمقراطية الأوروبية الحديثة وفي التأثير في فترة لاحقة على كثير من كبار السياسيين في أوروبا والعالم مثل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج والزعيم الهندي المهاتما غاندي والزعيم الصيني صن يات صن.
ومازيني كان معروفا في الأوساط الثقافية في العالم العربي خلال اربعينيات القرن الماضي حيث وجدنا عدة دراسات عنه من بينها سلسلة مقالات فكرية تاريخية بقلم المؤرخ المصري محمود الخفيف نشرتها له مجلة الرسالة على حلقات في اعدادها لعام 1939.
اترك تعليقك