صورة سجين هارب

آراء وأفكار 2022/01/17 11:33:41 م

صورة سجين هارب

 جمال العتّابي

- 2 -

أمسك محمد الخلف بمسبحته ومشى مسرعاً، عيناه غائرتان مسبلتان بحبات دمع لا تكاد ترى، قلبه يخفق، وحذاؤه يدق إسفلت رصيف السد بقوة، عبر نحو الضفة اليمنى من نهر دجلة قبل أن تبدأ ساعات حظر التجوال الذي أعلن عنه الليلة الفائتة، إلتفت إلى ورائه ليرى مشهد المدينة المسوّرة بالخوف والترقب، وصوت نشيد الله أكبر يتعالى، أو يأتيه متقطعاً مع برد الصباح من مذياع مقهى تطل على ضفة النهر اليسرى، كانت الشمس شديدة اللمعان، والسماء زرقاء يحفّ بها لون بني غامق.

إبتعد محمد قليلاً نحو ساحة صخرية تقف فيها سيارة خشبية كهيكل عظمي لعجوز، وقف سائقها بعيد خطوات عنها منادياً بصوت أجش : حي.. حي... نظر محمد الخلف في ذهول إلى نهايات أعمدة تلغراف صدئة يحوم حولها غراب أسود، ثم أصغى لمحرك السيارة وهو يرسل ضوضاءه دون توقف، فجأة صعقته المفاجأة، ثلاثة أو أربعة مدرّعون، غلاظ الشفاه هبطوا من سيارة عسكرية، أخذوا مواقعم حول السيارة، صوبوا بنادقهم (البورسعيد) نحوه مباشرة، وأطلقوا الرصاص على الإسفلت، فإرتجّت عروق الاشجار النائمة البعيدة، وتناثرت الحجارة، وترنحت الأعمدة، ثم عادوا إلى سيارتهم، كان محمد مقرفصاً نجا من الموت بإعجوبة، حدّث نفسه: يبدو أنهم يبحثون عن رجل آخر لم يعثروا عليه.

كان محمد قد عقد العزم مع نفسه أن يتجه إلى عمق ريف الغراف، بعد أن يقطع عشرات الكيلومترات راجلاً كي يصل بيت زوج شقيقته الكبرى نوار الناهض، الآمن بتقديره لأنه بعيد ومنعزل عن بيوتات أهله في القرية.

أختار محمد طريقه نحو مؤخرة السيارة، إضطر أن يتسلق مصطبة خشبية زادت من توتره، فإنضم لكدس من رجال علت وجوههم الغبرة وتراصفوا كالخراف، كأنهم أسندوا ظهورهم إلى جدار صخرة، كانت السيارة في الطريق الترابي نحو مدينة الحي، تطل على منحدر تارة، وترتقي ضفة نهر الغرّاف تارة أخرى، وهي تطلق صوت منبهها كوجع إنسان معذّب، يقتحم الصوت أذنيه مثل آهة حرّى، ثم يساوره إرتياح إذ يجد نفسه طليقاً غير آبه بثرثرة الفلاحين التي تتصاعد مع سحب الدخان الكثيفة وسط الهيكل الخشبي، الذي يزداد صريره مثل كائن يتلوى من الألم :

- الزعيم مازال يقاوم الانقلابيين من مقرّه في الدفاع .

-الشعب في الشاكرية والصالحية وحي الأكراد والكاظمية يحمل السلاح ضد (الثورة).

- الزعيم كيف حصر نفسه في الدفاع؟ هذا عمل لايدل على عقل عسكري ميداني!

- والله يبين من الأخبار والبيانات ان الجماعة تمكنوا من السيطرة!

حاول محمد الخلف أن يستعيد توازنه بعد ان قطعت السيارة بضعة كيلومترات، وهو يتمتم لوحده رغم المرارة التي تتناسل في فمه، والجزع الذي يملأ جرار الروح، كان عليه أن يترجل ويلفّ حول المدينة بعيداً قبل أن يصل مدخلها الشمالي، لأنه بلا هوية تعريف، وأهل المدينة يعرفونه تماماً، ثم يعود من جديد ليستقل سيارة أخرى نحو مدينة قلعة سكر، كان عليه ان يكون شديد الحذر من العيون التي بدأت تراقب وتدقق بوجوه القادمين اليها، والرشاشات تمسك بمداخل المدن ومخارجها، عليه ان يدخل المدينة في جنح الظلام، إختار ربية لينزل عندها بعيدا عن المارة، وهو يتجه ببصره نحو العشب الممتد نحو الأفق، أغمض عينيه، وظل يغمغم بكلمات كمن يتهجد ويطلب الغفران :

لماذا أرضنا تهاجمها السيول؟ فإستحال مصيرنا الغرق، أو التشرد والتبعثر، أتراها لعنة أزلية حلّت بنا؟ أم ماذا؟ يتساءل محمد الخلف، وأمام ناظريه مشاهد أجيال ولدت وماتت، وأزمنة توالت وتساوقت، ويواصل السؤال : ماذا يجري؟ ومالذي فعلناه، لماذا هذا التوارث الأبدي للخسارات والإنتكاسات؟

أريد أن أسمع ما يعتلج بأعماقك الآن يا أم جلال، يا أم أولادي، مرّت شهور، وإنطوت أخرى... وأخرى لم تزل تطوي، فتطوين بها أودية الوحشة، تحدثي الآن، هل من دليل لقلبك يدريك؟ انني ما عدت سجيناً، لكننا سنقبع جميعاً بزنزانة سوداء، لعلي أسمع الآن إبتهالاتك، توصدين الأبواب والنوافذ، فالريح نحسٌ في الشتاء، تسرق نعاس الأطفال في الليالي، لعلك تشاطرينني الأسى والسؤال! كفاك أنك حائرة تبحثين عن الغائب، كفى جنبيك نواحاً، دعي دقات قلبك توحي لك انني طليق أبحث عن مرافئ آمنة، ترى هل كبرت لولو؟ اسمع صرخاتها كبكاء النوارس في صباح شاحب.

خلي السهد يستلقي يا أم جلال، فما زال محمد الخلف متشحاً بثوب الكبرياء!

النجوم الشفيفة كانت تضيء له الطريق، فتسلل الى أطراف المدينة، كان الهواء بارداً يحمل رطوبة طين الأزقة، ويساقط رذاذه على وجهه، والخدر يسري في مسامة سريان البرق في الظلمة، ظلّ مثقل الرأس مخدّر الحواس، في حين بدأ الليل يوغل في النعاس، كان يسأل أحد المارّة ليدلّه الى بيت (زعيبل)، مدركاً منذ البدء مروءة الرجل العامل الكادح المؤتمن على السر، وإفتتانه بقوة جسده النادرة، التي لا تحتاج إلى إختبار في اليوم الصعب.

في لحظة إقترابه من عتبة المنزل، كانت هناك بقايا ذكريات تنبعث كالحلم المستحيل من بين شقوق الأرض والجدران المغبرة، تتسرب العيون من خلف الباب المقفل، تتسربل قدماه المترددتان فوق الدكات الأولى برنين صوت زعيبل وصلوات كريمته تينة، فيرتفع وقع أنفاس محمد كلما إجتاحته رأفة أشباح الذاكرة، أصوات الذكريات المدوية في رأسه تبعث في أوصاله رعشة خوف، وأخرى تراوح بين الخوف من هذه البداية وأشباح النهاية

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top