د. حيدر نزار
في عام ١٩٢١ وضع شيعةُ العراق بتنسيق مع إخوانهم السنة والكرد البصمةَ الأولى لملامح الهوية والروح الوطنية المشتركتَين. ورغم أن العراق لم يك حينها مُحدد جغرافياً في السياسة والأرض، فإنَّ المشاعر المتضمّنة في وجدان الناس في هذه البقعة
قد انبثقت بثورةٍ وطنية رافضة لقوّة أجنبية امبريالية وجدت في هذه البلاد لقمةً سائغة يمكن الاستيلاء عليها كجزءٍ مِن مشروع الاستعمار الغربي المُنشط برأسمال حضاري وتكنولوجي وعسكري واقتصادي يسعى إلى فتح الأسواق ضمن ايديولوجيا الرأسمالية المفعمة بالعزيمة وعقلية التفوّق الثقافي على شعوبٍ تراها متخلّفة وغير قادرة على استثمار ثرواتها، الأمر الذي يسوّغ استعمارها واستغلالها كأسواق وأرضِ ريع للمادة الأولية، ووسيلة جديدة لمراكمة رأسمال الغرب ورخائه وربط هذه البلدان باقتصادياتها الآسيوية الحرفية والبدائية بالسوق العالمي الخاضع لسيطرة هذا الغرب. (يمكن التوسع في الاطلاع على هذه السردية عند إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، وعصام الخفاجي في الولادات المتعسّرة).
في عام ١٩٢٢ حذَّرَ تقريرٌ سرّي بريطاني مِن خطورة دعوات أمين الجرجَفجي البغدادي المطالِبة بإنصاف شيعة العراق والتعامل معهم بعدالة، بعيداً عن التمييز والإقصاء المعمول به بوضوح. وكان الجرجفجي مؤسس حزب النهضة من روّاد النخب الشيعية التي علا صوتها بالصراخ، وهو يطالب بحق شيعة العراق بنفض آثار المظلومية والتهميش الذي تعرّضوا له لقرون.
منذ قرون يعيش شيعةُ العراق في بلدهم كمواطنين مِن الدرجة الثانية مشكوكاً بولائهم لخارج الحدود ومحظور عليهم ممارسة طقوسهم الدينية، إذ لحقهم التمييز حتّى بالجانب السياسي. وعلى سبيل المثال تعرّض الشيعةُ الشيوعيون إلى حملات إبادة عام ١٩٦٣ عندما انقلب البعثيون على عبد الكريم قاسم، وعوملوا بمنتهى القسوة والاحتقار طوال المدة مِن عام 1963 إلى عام ٢٠٠٣. وباختصار كان شيعة العراق كما وصفتهم “مِس بيل” أفضل الزارعين وأسوء الحاصدين، ومنهم ظهر كبار علماء العلوم الطبيعية والهندسة والطب والعلوم الإنسانية والأدباء والفنانين الكبار الذين صاغوا قلادة الأدب والفن العراقيين. ولدينا في هذا السياق قائمة مترعة بأسماء العظام مِن المبدعين، بل كان نخبة شيعة العراق روّاد زراعة شتلة الوطنية العراقية. ولعلَّ تفجّر الروح الوطنية في تشرين ٢٠١٩ كان تجسيداً لِباطنية هذه الروح وتجذّرها في الوجدان الشيعي بعد ٢٠٠٣، إذ انقلبت الأمورُ رأساً على عقب وتحوّل الشيعةُ بعد مسيرة طويلة مِن المظلومية إلى أهل سلطة. ولكن مَن هُم الذين اعتلوها باسم الشيعة؟ وهَل كانوا مؤهلين قادرين على تمثيلهم السلطوي؟ هذا السؤال هو جوهر معضلة الشيعة الآن… إذ صعد إلى قمّة السلطة جهلةُ الشيعة وأميّوها، وبعضهم تربّى في أحضان دول أجنبية فانغرست بضمائرهم وعقولهم ايديولوجياتها التي استحالت إلى ولاء وطاعة ممهورتان بالدم أحياناً، وجرى استبعاد نخبهم وكفاءاتهم المتمكنة الخبيرة المتعلمة، فقد فَتَحَ هؤلاء الغارقون بالجهلِ والفوضوية وجلد الذات الأبوابَ أمام كلّ مَن هبَّ ودَبّ مِن الوضعاء لاتهام شيعة العراق بالفشلِ والماضوية والتصغير كونهم ليسوا أهلاً للحكم، وهي مغالطة عظيمة أوجد مسوغاتها حكّام ما بعد ٢٠٠٣ كناتج فوضويتهم وشراهتهم لِلمال والسلطة والنفوذ والإذعان لدولٍ أجنبية تفكّر بمصالحها القومية أولاً. وَلعلَّ المدّة التاريخية الممتدّة مِن عام ١٩٤٧ كبداية تمثّل تبوّأ صالح جبر رئاسةَ الوزارة كأوّل شيعي يبلغ هذا المنصب وحتّى عام ١٩٥٨ شهد تاريخ العراق مجموعةً مِن محترفي السياسة مِن الشيعة من ذوي التعليم المرموق الذين أثبتوا كفاءةً عاليةً في الإدارة والقيادة ومِن أصحاب النزعة الليبرالية العصرية الذين خدموا الشيعةَ بأفضلية وتركيز على رفع مستواهم التعليمي وزجّهم في قوائم البعثات العلمية ورفع الحيف عنهم بالوظائفِ العالية المقام كوسائل أكثر منفعة ومشاركة في إدارة شؤون بلدهم، (يمكن الاطلاع على نماذج عند عبدالكريم الأزري في مشكلة الحكم في العراق). غير أن ما يمكننا تلمّسه بعد٢٠٠٣ أن مظلومية الشيعة تزايدت وتصاعدت، وهذه المرّة ليس في التعنيف والاحتقار وركنهم كمواطنين درجة ثانية، بل بنحو أشد وأبشع، وهي منهجية تجهيلهم وخداعهم وطمس شخصيتهم المميزة وسلبهم عقولَهم باستخدام العاطفة والبكاء على الأطلال، حتى أمسى بعض الشيعة من فرط جهلهم يدافعون بشراسة عن الذين ألحقوا بهم وبسُمعتهم الضررَ الفادح بمبرر أنهم شيعة، بدل أن يفكروا أن لِلشيعة كفاءات ونخب ومثقفين يمكن لهم أن يجهدوا في بناء دولة حقيقية. وهنا استمرت مأساتُنا كشيعةٍ ولم تتحقق أحلامُنا وآمالنا، وأصبحنا أسرى بقبضة مدّعي تشيّع لا يفكّرون ولا ينظرون أبعدَ مِن أرنبة أنوفهم. وهنا يمكن التكرار التأكيدي بخطورة الحثّ التجهيلي وبشاعة ما يتعرَّض له الشيعةُ مِن تضليلٍ عندما تُغلَق أمامهم كلّ الطرق باستثناء واحد يَفضي دائماً إلى أصحاب السلطة الرثة كاختيار ومخلّص وحام وممثّل شريف مِن خلال عقيدة جديدة ابتدعت التشكيك بتشيع مَن لا يتوافق مع طروحات ومواقف وحتّى مغامرات شيعة السلطة. وإذا أخذنا بنظر اعتبارٍ فوق العادة مواقفَ مرجعية النجف الدينية التي وسمت هؤلاء بالفشلِ والفساد فإنَّ ذلك يستدعي فتح مسالك جديدة لإعادة تشكيل العلاقة بين الجمهور والسلطة، الأمر الذي يستدعي نشاطاً ثقافياً تنهض به النخب الفكرية والثقافية الشيعية العراقية وغلق طرق الاحتيال والتحطيم النفسي الدعائي الذي يهدف إلى فرض الهيمنة وتعزيز عملية الإخضاع . وبالتأكيد مع وجود وفرة كبيرة في الكفاءات العراقية الشيعية يمكن لها أن تنهض بالبلاد وتقودها بأداء ناجح بفكرٍ عصري ومهارات معرفية وتعليمية محترمة بدل نخب سياسية تتلاعب بالعواطف وتنشر الجهلَ دون انجاز حقيقي لمطامح وآمال شيعة العراق برفع المظلومية عنهم. ومَن يتلاعب بالعواطف فهو أشد ظلماً وخطراً.
اترك تعليقك