مع تولستوي

مع تولستوي

 يبين كتاب «لماذا يصفق المصريون»، لمؤلفه د.عماد عبد اللطيف، والصادر عن دار العين للنشر-2010م، أنه لا يُعرف على وجه الدقة متى بدأ الإنسان التصفيق، ومن غير الممكن الادعاء بأن التصفيق عُرِف في مجتمع أو حضارة ما قبل المجتمعات والحضارات الأخرى، لكن هذا لا يعني أنه سلوك مستحدث، فهناك إشارات عدة لوجوده في بعض المجتمعات القديمة،

 فكثير من النقوش المصرية القديمة تُظهر المصريين .  وهم يصفقون خاصة بمصاحبة الرقص والغناء، وقد كان التصفيق في مصر الفرعونية أداة الإيقاع الأساسية، وكان يُصاحِب عادةً حفلات الرقص والغناء التي أبدع في فنونها المصريون.ويوضح عبد اللطيف في كتابه أنه كان التصفيق في الحضارة اليونانية وسيلة إظهار استحسان الجمهور وإعجابهم بالعروض المسرحية أو الموسيقية أو الغنائية التي يشاهدونها، بل إن اليونانيين ربما كانوا أقدم الشعوب التي عرفت مهنة المصفِّق المأجور؛ أي الشخص الذي يحصل على مقابل مادي نظير التصفيق المتحمس لمسرحية معينة أو أداء موسيقي ما، فقد كان بعض المؤلفين المسرحيين الذين يعرضون مسرحياتهم على مسرح «ديونيسيوس» يؤجرون مجموعات من الجماهير تقوم بالتصفيق الحار لمسرحياتهم أمام لجان تحكيم المسابقات المسرحية.  وتذكر كتب التاريخ أن نيرون (37-68 م)، طاغية روما الشهير، أسس مدرسة خاصة لتعليم أصول التصفيق، وأنه كان يأمر ما يقرب من خمسة آلاف فارس وجندي من أفراد الجيش بحضور الحفلات الموسيقية، التي كان يغني فيها وهو يعزف على القيثارة؛ ليصفقوا له بعد أن ينتهي من الغناء والعزف.  ويرى المؤلف أن التصفيق ممارسة ثقافية، لذا تختلف طريقة استخدامه ووظائفه وكيفية تأويله من ثقافة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر، ومع ذلك فقد أدى كون التصفيق شعيرةً تواصلية في كثير من أشكال التواصل الجماهيري في الوقت الراهن، إلى تحوله في بعض أنشطة التواصل إلى عرف مستقر، لا يختلف مداه الزمني أو مواقع حدوثه من ثقافة إلى أخرى، ففي سياق الخطب الرئاسية. على سبيل المثال - يلتزم الحضور بالتصفيق بمجرد دخول الرئيس المكان، فإذا كان سيتم تقديمه للمخاطَبين، فإنهم سيصفقون مرة ثانية حين يقوم ليعتلي المنصة التي سيخطب من ورائها، وغالبًا ما يقوم الحضور بالتصفيق مرات عدة أثناء الخطبة، قبل أن يأتي التصفيق الأخير بعد انتهاء الخطيب من إلقاء خطبته. ويعتني عبد اللطيف بتوجيه بوصلة بحثه المعمق إلى الكشف عن الطرق المختلفة التي يتم استخدامها بهدف دفع الجمهور إلى التصفيق، والحيل المتعددة التي يتم توظيفها للحصول على تصفيق مرتفع الصوت وممتد الزمن، ليعرفنا من خلال ذلك على أنواع التصفيق وتجلياته، والوظائف التي يقوم بها في المجتمع المصري، إضافة إلى الأبعاد الاجتماعية والسيكولوجية للتصفيق لدى الجماهير المصرية، مع العناية بشكل خاص بالدور الذي يقوم به التصفيق في ترسيخ السلطة القائمة؛ سواء أكانت سياسية أم أكاديمية أم فنية، وكيف يمكن أن يتحول إلى أداة لمقاومة السلطة القائمة، وشروط تحقيق ذلك. ويوضح المؤلف أنه، ولكون التصفيق هو في أغلب الأحيان علامة على إعجاب الجماهير وحماستهم وتأييدهم للشخص الذي يصفقون له، هناك عدد من الطرق التي تُستخدم للاستحواذ على إعجاب المصريين وإشعال حماستهم وكسب رضاهم وتأييدهم أثناء التواصل الجماهيري، لكن التصفيق أيضًا قد لا يكون اختيارا حرًا؛ولذا يهتم عبد اللطيف بالكشف عن الدور الذي يقوم به التصفيق في خداع الجماهير والتلاعب بهم وتضليلهم، من خلال دراسة ظاهرة «المصفقاتية والهتِّيفة»، وظاهرة المصفق المأجور والتصفيق القهري والتصفيق المعد سلفًا، وهو ما يفتح الباب أمام مناقشة العلاقة بين التصفيق والحرية من ناحية، والتصفيق والكلمة من ناحية ثانية، والتصفيق والفعل من ناحية ثالثة.  وقد حاول المؤلف - في سبيل تحقيق ذلك - الإفادة من الدراسات الأجنبية القليلة ـ التي اهتمت بهذه الظاهرة، لكن هذه الدراسات لم تكن كافية للإحاطة بأبعاد التصفيق في المجتمع المصري المعاصر؛ لأن ظاهرة التصفيق في هذا المجتمع ربما كانت أكثر تعقيدًا وثراءً من مثيلاتها في مجتمعات أخرى، ويقول في هذا الخصوص:  «وقد دفعني ذلك إلى الاجتهاد في بلورة أدوات معرفية تُعينني على فهم التصفيق في السياق المصري. ولأن ظاهرة التصفيق متعددة الجوانب والأبعاد، فقد حاولت قدر جهدي أن أفيد من معارف متنوعة لازمة لفهمها والإحاطة بها، فعلى الرغم من أن هذا الكتاب ذو منظور بلاغي ـ فهو يقع في القلب من علوم البلاغة والاتصال الجماهيري خاصة ـ فإنه يمد أطرافه ويضرب بجذوره في تربة علم السياسة وعلم النفس والاجتماع وحقل التواصل الجماهيري والأنثروبولوجيا وفضاءاتها».  ونظرًا لأن التصفيق يحظى بأهمية خاصة في التواصل السياسي فقد أفرد عبد اللطيف محورا خاصا لدراسة التصفيق أثناء الخطابة السياسية، وهي أشهر أشكال التواصل السياسي، وأكثرها انتشارًا وتأثيرا في المجتمع المصري، وتناول الأساليب التي استخدمها أربعة من الرؤساء المصريين، وهم:  محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، لاستدعاء التصفيق من الجمهور، والفخاخ التي استخدموها في اصطياده، موليًا اهتم

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top