مرساة: المونتير السكران

حيدر المحسن 2022/03/29 11:35:06 م

مرساة: المونتير السكران

 حيدر المحسن

كان صديقي محمود في مزاج لا يُطاق، ذلك أن عليه أن يقصّ حوالي ميلا من شريط الفلم السينمائي الذي سوف يُعرض الليلة، بسبب سوء الخزن. يعمل محمود وهو سكران، كعادته، وكان جفناه الثقيلان ينخفضان ببطء فوق عينيه الزرقاوين.

"هل أكلتَ اليوم شيئاً؟" سألته، لأني لم أجد في الغرفة أثراً لأيّ طعام. لم يجبني، وكان منهمكا في عمله.

"لكنك نحيف جداً. أنت لا تأكل ما يكفيك، أليس كذلك؟".

"الطعام يخفف العرق ويطمسه بعيداً عن الرأس".

ردّ عليّ، ورائحة الخمر النفاذة والقوية تتطاير من فمه، ضائعاً بشعره الأشقر المجعّد بين أجزاء الماكنة السينمائية كأنه جزء منها. في المذياع أغنية لسيتا هاكوبيان يترنّم بها صديقي الثمل، والجوّ في الغرفة حارّ وخانق. انتهى من تحديد القسم المعطوب من الفلم، وكان يعمل ويدخن ويغني بلثغته المحببة، رائحة العرق الزحلاوي غالبة حتى في علبة الزيت الخاصة بماكنة العرض السينمائي. كنت أحمل له الخبز مع الخس واللبن والحمص المسلوق، والساعة تقترب من الثانية ظهراً، وكان عليه تجهيز الفلم لعرضه في الرابعة عصراً. بعد أن نفختُ عنكبوتاً ميتاً، ورتّبتُ الطعام على المائدة، هتفت به:

"لا ترهق نفسك بالعمل وأنت تشرب الكحول القوي ولا تأكل بصورة ملائمة. يسمّون هذا الفعل انتحاراً".

رشف من كأسه، وشعّ وجهه مباشرة بالجدّ. قال:

"من فضلك، أعطني المقص الذي في الدرج الثالث. أريدك أن تنتبه معي إلى المشهد القادم. سيرى الجمهور الفلم بمونتاج جديد".

ثم تابع، وهو يطفئ سيجارته، ويصبّ المزيد من العرق:

"هل تصدّق؟ هذا العمل يحزنني لأنه يضطرني أن أقطع أمتاراً تبلغ العشرات من الفلم، ويفرحني قليلاً لأنه يجعل مني مونتيراً جديداً له. هل فهمت؟ تعال وانظر معي، ودعك من هذا الحكي الذي يشبه كلام النساء".

ثم أتى على الطعام بلا مبالاة، وكان يقيس الشريط التالف بذراعه. أطفأ أنوار الصالة، وكنا نشاهد الشاشة من غرفة ماكنة العرض السينمائي.

((ساحة هادئة بمصاطبها وأشجارها. حمائم تحطّ على أحجار النافورة، تطير وترفرف حول تماثيل الأساقفة. هناك الكنيسة، وهنالك دكاكين في الجانب الشمالي من الساحة تبيع الفواكه والخضروات والخمور، الخبز والحلويات والأغذية المعلّبة. ثمة متبضعون ومتسكعون في الشارع. في الجانب الآخر يقف الشرطي متأهبّاً بعصاه الغليظة:

"أُلقيْ عليكَ القبض بتهمة التشرّد".

أخرج الكهل رأسه من حاوية الأزبال، وهو يرتعش من البرد. ظلّ ينظر إلى الشرطي مستفهماً، جميع أمارات الجوع والمرض بادية على وجهه. يتقدم الشرطي بخطوات، وعندما يجد الكهل الأمر جاداً يطلق ساقيه للريح وقد فاز من حاوية الأزبال بدمية صغيرة بلا ثياب ولا ذراعين منتوفة الشَعر. رمى الشرطي عصاه وأصاب الكهل الذي كان يركض ضارباً الهواء بالدمية العارية. تضجّ الشاشة بالموسيقى، ويقع المتشرد أرضاً، وتدور الكاميرا في لقطة قريبة من وجهه المنتفخ بالألم. شيئاً فشيئاً تخفت الموسيقى، وتتعالى تأوهات المتشرد، دموع غزيرة تسيل على وجنتيه القذرتين)).

"هاهو مكان القصّ. انظر!" صاح صديقي، وكانت عيناه تلمعان أكثر، ومزَّ من كأسه، وتناول حبة حمص.

((أعتمت الشاشة وصارت سوداء. صمت. شاشة بيضاء. تُسمع فرقعة ثم يعود الصمت ثقيلاً هذه المرة. يعود الصوت تدريجيا بشكل تنهد خافت. ظلام باهت، شبابيك مشرعة، وضوء القمر ينير غرفة النوم حيث رجل وامرأة يتطارحان الغرام. الرجل يقبّل المرأة من أصابع يديها، يقول شكراً لكل إصبع، ويدفن وجهه في صدرها العاري. الموسيقى ترقّ، ويسترسل الرجل في مناجاته:

"كل ما أقوله لك يا حبيبتي هو رجع لكلامك".

رفعت المرأة رأسها منتشية، وكان وجهها يبتسم للقمر في النافذة. قالت بصوت رقيق، وكانت تحتضن يده بيدها:

"يا لسعادتي! إنني أعيش في الجنة!")).

"هائل!" هتف محمود، واستدار إليّ مبتهجاً، وصبّ المزيد من العرق:

"هل رأيت ما يفعله المونتير السكران؟".

ثم أطفأ ماكنة العَرض، وأشعل الضوء في الصالة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top