كيف يُعَدّل الدستور.. ولماذا؟

آراء وأفكار 2022/05/30 01:44:34 ص

كيف يُعَدّل الدستور.. ولماذا؟

 د. فلاح اسماعيل حاجم

اثار موضوع تعديل الدستور، وما زال يثير الكثير من الجدل والاهتمام ليس فقط بين فقهاء القانون ورجال السياسة والدولة، بل ولدى عامة الناس لما لهذا الموضوع من علاقة بالحياة العامة للمواطنين، ذلك ان القانون الاساسي للدولة،

الذي تطلق عليه صفة العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها يحدد فيه حجم الحقوق والحريات، التي يترتب على سلطات الدولة تقديمها للمواطنين. ويكتسب هذا الموضوع اهمية استثنائية بالنسبة لبلدنا في الوقت الراهن، حيث اوصل نظام المحاصصة الطائفية الدولة الى هاوية سحيقة شكل الدستور احد اسبابها الرئيسية لعجزه عن ان يكون الفيصل الذي يمكن الرجوع اليه لحسم صراع القوى القابضة على السلطة من اجل مصالح ابعد ما تكون عن هموم الناس ومصالحهم.

مما لا شك فيه ان من الحقائق الواضحة، على الاقل بالنسبة لرجال الدولة والسياسة والمتخصصين في مجال القانون الدستوري، أن وقت سريان العقد الاجتماعي ليس ابديا، وانه شأنه شأن العمليات والظواهر الاخرى، خاضع للتقادم. الامر الذي يتطلب تبديله، أو تعديله بما يتناسب ومتطلبات ما تفرضه الحياة والمتغيرات السياسية - الاجتماعية، وحتى الدولية، وما تفرضه المواثيق واللوائح الدولية، التي تجد الدول نفسها مرغمة على الالتزام بها وفق ما بات يسمى بواقع العولمة.

لكن السؤانل الذي يفرض نفسه في هذه الحالة هو كيف يمكن اجراء عملية تبديل، او تجديد العقد الاجتماعي، الذي يسمى الدستور؟. وهنا اجد مناسباً الاشارة الى أن أحد مؤلفي وثيقة الاستقلال الامريكية وهو واحد من (الآباء المؤسسين) الرئيس الثالث للولايات المتحدة الامريكية توماس جفرسون (1743–1826) قد ذهب الى ان الدستور ينبغي تبديله كل تسعة عشر عاماً، معتقداً بأن نصف المجتمع يتجدد خلال الفترة المذكورة، الامر الذي يعني عدم استجابة الدستور لمصالح نصف المجتمع. وهنا تجدر الاشارة الى أن الدستور الامريكي يعد من الدساتير الجامدة، بحيث لم يمرر خلال الفترة ما بين ١٧٨٧ وهو تاريخ اعتماد الدستور الامريكي و ٢٠١٩ سوى ٢٧ تعديلا من بين ١١٧٧٠ مقترحا بالتعديل.

ويمكننا العثور على حالة مشابهة في الدنمارك ايضاً، حيث تتطلب عملية ادخال تعديلات على دستور الدولة موافقة الحكومة وتصويت اغلبية اعضاء البرلمان على مقترح التعديل اولا، وبعد اجراء انتخابات للبرلمان ينبغي ان يصوت لصالح التعديلات اغلبية اعضاء البرلمان في دورته الجديدة، ليس هذا فحسب، بل يتطلب الامر ايضا ان يصوت اغلبية المواطنين في استفتاء عام، يُنظَم بعد ستة اشهر التصويت في البرلمان، وان تكون نسبة المشاركة فيه ما لا يقل عن ٤٠ ٪ من الناخبين. لذا نجد.

ويرى بعض فقهاء القانون الدستوري بان سهولة تمرير التعديل الدستوري (الدساتير المرنة) من الممكن ان يؤدي الى عواقب وخيمة. وهذا ما حصل، على سبيل المثال، لدستور جمهورية فايمار (١٩١٨-١٩٣٣) الذي اعتبره المؤرخون من اكثر الدساتير ليبرالية وديمقراطية ضمن دساتير الموجة الاولى*، حيث اتاحت المادة (٤٨) لرئيس الجمهورية اعلان حالة الطوارئ وتغيير القوانين من دون موافقة الرايخستاغ (البرلمان) خلال فترة تلك الجمهورية وقد استخدم الرئيس هذه المادة اكثر من مئة مرة، اذ تحولت هذه المادة الى وسيلة لمعالجة الحالات غير المريحة بالنسبة للرئيس.

وبعد الحريق الذي نشب في الرايخستاغ في ٢٧ فبراير/شباط من عام ١٩٣٣ اصدر رئيس الجمهورية قراراً، مستخدماً مرة اخرى المادة (٤٨) من الدستور. وكان قبل شهر من ذلك التاريخ قد تولى ادولف هتلر منصب مستشار الدولة، لكنه كان يفتقر الى الاغلبية المطلوبة في البرلمان.حينها تمكن الحزب النازي من اقناع الرئيس بان الحريق هو اشارة البدء للثورة الشيوعية، الامر الذي ادى الى ان يحد المرسوم الرئاسي من الحريات الشخصية وحرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة وحرية التجمهر والخطابات وحرية …الخ. في ذات الوقت تم الغاء تفويض النواب واعادة الانتخابات، حيث حصل الحزب النازي على اغلبية المقاعد في الرايخستاغ وتمكنوا من تمرير “قانون الدفاع عن الشعب والرائح” الذي منح هتلر صلاحيات دكتاتورية واسعة، في ذات الوقت استمر سريان دستور فايمار لحين اسقاط الرايخ الثالث. ويمكن العثور على عملية احتيال مشابهة في مصر، حيث استمر قانون الطوارئ من عام ١٩٨١ ولغاية ٢٠١٢ واصبح احد اسباب الثورة المصرية.

من جهة اخرى نرى ان تعديل الدستور يبدو ضروريا وهو حالة روتينية في الكثير من البلدان. ففي المانيا، على سبيل المثال، يتطلب تعديل الدستور تصويت ثلثي اعضاء البرلمان، ولكن في اغلبية الدول المعاصرة يتم التعديل اما من خلال التصويت مرتين في البرلمان، أي قبل وبعد اجراء الانتخابات (بمعنى خلال الدورة البرلمانية التي تسبق انتخابات برلمان جديد، وبعد التئام البرلمان في دورة جديدة) او اجراء استفتاء عام بعد تصويت البرلمان على التعديل.

دساتير “الواجهة”** وكيفية تعديلها..

مما لا شك فيه انه في الكثير من الدول (اللادستورية) توجد ايضا دساتير. ولا شك ايضا ان اهدافاً مختلفة تكمن وراء تشريع هذه الدساتير، منها، على سبيل المثال، تنظيم عمل مؤسسات الدولة، أي أنها تكون بمثابة القانون الأساسي دون الاعتماد على العقد الاجتماعي. وفي حالات أخرى تكون هذه الدساتير نافعة في مجال العلاقات الدولية. مثل هذه الدساتير ممكن مصادفتها في بلدان (العالم الثالث) اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية.

في مثل هذه البلدان، يمكن أن تصبح الدساتير (الوهمية- دساتير الواجهة) قابلة للتطبيق، اذ انها تشكل الشماعة (الشرعية) التي يلجأ اليها الحاكم والمكونات الاثنية المختلفة، وكذلك ممثلو (الدولة العميقة) لتبرير سياستها وشرعنة تواجدها في السلطة وتبادل الادوار فيها. المشكلة الاكثر ايذاءً هي أنه في هذه الحالة، غالبًا ما تؤدي التعديلات إلى طمس مبدأ الفصل بين السلطات والاسس القانونية بشكل عام. وهذا أسوأ ما يمكن ان يصيب البناء الدستوري للدولة. ويشبه بعض فقهاء القانون الدستوري هذه التعديلات بالمقالات، لأن قواعدها وموادها يعاد صياغتها مثلما يتم تحرير مقالات النشر.

ويمكن ان تكون تجربة هندوراس مثالا على ذلك، حيث نص دستور البلاد لعام 1982 أن يكون الحد الأقصى للدورة الرئاسية هو مرة واحدة فقط، وذلك يعتبر من اكثر القواعد صرامة في دساتير الموجة الثانية في العالم. وكان من المستحيل تغيير هذه المادة حسب الدستور. علاوة على ذلك، وضع الدستور قواعدَ تقضي بعزل أي مسؤول يحاول تغيير هذه الأحكام من منصبه، ولا يجوز له العودة إلى الخدمة المدنية لمدة عشر سنوات.

وقد أنتخب الرئيس مانوئيل سيلايا في عام ٢٠٠٦ وتقدم مباشرة بمقترح لتغيير دستور عام ١٩٨٢ بدستور بديل جديد ونظم لهذا الغرض استفتاء، لحسم مسألة ما إذا كان ينبغي الدعوة إلى جمعية دستورية. حينها قرر القضاء انه لا يمكن تغيير الدستور بهذه الطريقة، فيما اتهم معارضو الرئيس سيلايا برغبته في تغيير المادة الخاصة بفترة الرئاسة ليمنح نفسه فرصة اخرى للاستمرار في كرسي الرئاسة. وقبل يومين من الاستفتاء قام كبار ضباط القوات المسلحة باختطاف الرئيس من منزله والتوجه به الى كوستاريكا وتحت قيادة الحكومة المؤقتة بدأت ازمة في البلاد استمرت لفترة طويلة تمثلت في وقفات احتجاجية وانتهاكات لحقوق الانسان وزيادة معدلات مستوى الجريمة، فيما اعتبرت المحكمة في عام ٢٠١٥ ازاحة مانوئيل سيلايا عن السلطة اجراءً قانونياً، لكنها (المحكمة) ذهبت الى اعتبار المادة، التي حددت فترة الرئاسة ليست دستورية.

لا دستورية التعديلات الدستورية..

في المؤتمرات العلمية والسجالات بين فقهاء القانون الدستوري تُطرح فكرة مفادها أنه حتى تلك التعديلات التي تم تبنيها بالتزام صارم بجميع القواعد الإجرائية يمكن أن تتعارض مع الدستور. على سبيل المثال، ممكن أن تكون، من الناحية الموضوعية، في تعارض مع محتوى و “روح” القانون الأساسي. فاذا ما تم تعديل الدستور الى الدرجة التي يكون فيها غير قادر على الحفاظ على المبادئ الاساسية ويصبح عاجزا عن تنظيم العلاقات الاجتماعية، التي تكون الدولة طرفاً اساسياً فيها، حينها لا يمكن الحديث عن دستور معدل، انما عن دستور جديد نوعيا. حينذاك يكون اجراء تعديل الدستور غير كاف، ويتطلب الامر اعادة توقيع عقد اجتماعي جديد.

ازاء هذه الحالة يذهب خبراء القضاء الدستوري الى انه من الممكن اعتبار مثل هذه التعديلات ليست دستورية. وربما تكون حالة الهندوراس مارة الذكر، اذ اعتبرت احدى مواد الدستور الاساسية، وليست مادة التعديل غير دستورية. ومثال الهندوراس لا يشكل حالة شاذة، بل انه حالة عادية، فدساتير (الواجهة) غالبًا ما تُعاد كتابتها في محاولة لتوطيد السلطة ومنح الشرعية للسلطات الواثبة الى الحكم، وخصوصا في بلدان الفوضى و الانقلابات العسكرية.

انني ارى أن تعديل الدستور العراقي الحالي، الدستور الذي من بين اهم اسباب فشله أنه حاول جمع ما لا يجمع، الامر الذي كان له الاثر السلبي الكبير على مجمل العملية السياسية في بلدنا، فقد أُريد له أن يكون حلا، ليصبح معضلة بحد ذاته.

………..

*- دساتير الموجة الاولى هي تلك الدساتير التي اعتمدت منذ اقرار اول دستور بالمعنى المعشر للكلمة وهو الدستور الامريكي لعام ١٧٨٧ وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور هيئة الامم المتحدة واقرار الاعلان الدولي لحقوق الانسان. وتختلف دساتير الموجة الثانية من حيث طريقة اقرارها او ترتيبها الداخلي.

**- ويطلق عليها ايضاً الدساتير الوهمية، او الدساتير الميتة أي تلك الدساتير التي لا تتوفر الامكانية لتطبيقها، فيما تحتل قرارات الحاكم الفرد، او الطغمة الحاكمة و (الحزب القائد) منزلة الدستور.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top