توقف النسق في النص والتحول الى غيره

توقف النسق في النص والتحول الى غيره

ناجح المعموري

أثار كتاب د. علي حداد (ذلك من تأويله / نحو رؤية جديدة لقراءة النص الأدبي) كثيراً من الانتباه والجرأة في اختراق الثابت في الثقافة والتراث العربي البلاغي، واقترح مصطلحاً بديلاً وجديداً عنه،

ومهد له بالتقاط ما أشارت له المصادر التراثية والمعاجم، وجعل منها متمتعاً بحضور اصطلاحي وزاول له تطبيقات على نصوص شهيرة في الثقافة العربية مثل الليالي / أنشودة المطر / وقصة يوسف / ونصوص فرح دوسكي.

لم تكن مهمة د. علي حداد سهلة، عندما جازف بمغادرة “ التفات “ المصطلح البلاغي واختار بديلاً له [ التعليق ]. وقد تميز جهده بالاختيار والجدة والاجتهاد عبر الاطلاع على ما توفر من مصادر ثقافية وتراثية، حتى توفرت لديه متراكمات لمفاهيم “ التعليق “ ووظفها جميعاً مكوناً منها مصطلحاً جديداً. لم يكن نافراً بل قائماً في ذاكرة الثقافة العربية والدراسات الانسانية والفلسفية. وما له علاقة بالجمال والتأويلات. لكن اكتشف عقلاً ذكياً للأستاذ علي حداد والتقط من مكوناته التراثية والشفاهية، مصطلح جديد ومثير للدهشة، وهو الذي قال “: تستحيل عملية انتاج النص ـــــ طبقاً لمفهوم (التعليق) ــــــ على رؤية تجعل عمل المبدع وهو يؤسس النص شبيهاً يعمل من (يصنع) بساطاً من خيوط مادة معينة بألوان مختلفة، فهذا الصانع يقوم بالحقيقة “ تعليق “ متواصلة إذ يمسك بالخيوط الملونة المتعددة فيدخل بينها ماداً خيط ذا لون معين، ما يلبث أن “ يعلق “ انشغاله به واصفاً بموازاته خيطاً آخر، سيقوم بتعليقه هو أيضاً. ليأتي بثالث من لون آخر، أو يعود بعد ذلك الى الخيط الأول. وهكذا يستمر ذلك النشاط من تواشح الألوان والخيوط لينتج معنى مادياً / البساط “ بشكل فني “ الخيوط بألوانها وأطوالها “.

استثمار البساط النسيجي تمثيل لنصية تشكيل وتجاور رموز بعضها مع البعض الآخر والمعني بها الألوان، لذا ادخال لون معين الانتهاء من لون سابق، وهو “ التعليق “ ووجود د. علي حداد عبر استثمار “ التعليق “ في دراسته للإبداع، إنما يتم بذات الملاحقة التفكيكية التي تعاين تكوينات النص ومجالات تدفقها.

وعودة على انموذج البساط وجدت فيه اختصاراً كلياً لكل الامثلة التي طرحها د. حداد ومن هنا كنت اتمنى ان يلتفت الباحث الى التشكيل ويتعامل معه كنماذج تعريفيه للتعليق، وكان ممكنا توظيف هذا الفن لأنه اشار له.. وبالإمكان اللجوء الى سيمياء الالوان في الازياء. انا اعتقد ان ما حققه د. علي حداد محفز للقراءة وفاعليتها وهذا التوصل النقدي له فاعلية تطويرية للتأويل وتحفيز الجماليات في النصوص الادبية، بمعنى توفر هذه الجماعات يفترض العمل على الجمال وتوطينه بالقراءة ويوفر لها حضوراً قوياً للجماليات بوصفها ذات طاقة مضافة لشعرية النص الادبي. والدلالة العميقة والظاهرة التي اختارها د. علي حداد ذكية اختزلت حديثاً كثيراً وجعلت من البساط علامة على دلالة جماليات النص وتأويلاته وما يتمتع به من عمق، دائماً ما يلعب دوراً مهماً في تكوين موقف المتلقي الادبي والذوقي والجمالي، ويجعل منه حالة شعورية ذات طاقة فاعلة بالعلاقة مع الكشوف التي يتصل بها “ التعليق “.

تتضح حضورات “ التعليق “ في النصوص الكتابية، المدونات اكثر مما هو يتضح في المرويات الشفوية. واقترح د. علي حداد رأياً مفاده “ ان الكتابة تتيح فرصة زمنية اوسع امام المتلقي في معاودة تأمل النص بقراءات متعددة. اذ ان فضاء القراءة المكتوب مفتوح، بعكس الكلام الشفاهي الذي على صلة أنية بمتلقيه ويتأسس الوجود الكتابي لمفهوم “ التعليق “ في وعي مبدع النص وصاحبه ايضا، وتتيح له الكتابة تبدلات في السياق ومستوى السرد وحركية الافكار وهي افكار يصعب تحققها بالمشافهة.

واضح من النص الطويل الممثل للرأي النقدي للباحث ان التعليق له حضور واسع في الكتابيات ولم يغلق امامه الفرص في الكلام التداولي، طويلاً كان ام قصيراً، لذا انا اعتقد بأن المشافهة لا توفر فرصة تقديم شواهد للجزئيات النسق الكلامي والاشارة “ التعليق “.

وجدت بأن ملاحظة د. حداد حول المكان مهمة للغاية، لان المكان يخضع للتعليق النهائي. ترحل وقائع الحكي الى مكان غيره او تهيأ له ان “ يستعاد “ او يتداخل “ مع امكنة اخرى من خلال تأثيثه بوقائع مضافة.

منحت توصلات د. علي حداد معلومة ثقافية جديدة عن “ التعليق “ بوصفه حضوراً في السياق النصي. وقد يكون متكرراً او واحدياً، لكن للمكان تعليقه ــ كما قلنا ــ لأنه يمر فقط متجاوراً مع غيره: المثير في تطبيقات د. علي حداد، هو ما بحثه عن “ التعليق “ في كتاب “ الف ليلة وليلة “ وتمثيلاته الجمالية وايضا في نص بدر شاكر السياب. انشودة المطر “ الكتاب تجربة نقدية، ثقافية مهمة، توفر للقارئ الكثير من الكشوف المثرية لمعلومات المثقف وتغني تجاربه في الثقافة العراقية الجديدة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top