علم الاجتماع الرقمي..الخيال السوسيولوجي والفاعلية الاجتماعية في إطار بيئة رقمية شبكية

علم الاجتماع الرقمي..الخيال السوسيولوجي والفاعلية الاجتماعية في إطار بيئة رقمية شبكية

لطفية الدليمي

تختصُّ كلّ ثورة تقنية بسيادة نوعٍ من المَعْلَم التقني الذي يعيدُ تشكيل الحياة البشرية تبعاً لمحدّداته. حصل هذه الأمر مع عصر البخار،

ثمّ عصر محرّك الاحتراق الداخلي. كان الفحمُ والنفط معالم الثورات التقنية الجديدة، ثمّ تطوّر الأمر بكيفية صارت معها المحدّدات التقنية تنزعُ أكثر فأكثر نحو تمثلات رمزية أكثر من كونها مادية، والمثال الأكثر وضوحاً في هذا الشأن هو « المعلومات «. صارت المعلومات هي المادة التقنية التي تحدّد معالم الثورة التقنية الثالثة الموصوفة بالثورة المعلوماتية، وصارت الرقمنة Digitization هي الخصيصة الطاغية على كلّ الفروع المعرفية حتى أصبح ممكناً القولُ أنّ الرقمنة هي الخيط الذي يشدُّ سلسلة العلوم المعاصرة التي باتت متعشّقة مع بعضها إلى حدود يصعب تصوّرها من قبل غير المشتغلين في تلك الفروع المعرفية.

ثمّة تأثيرٌ ذو خصيصة مزدوجة بين كلّ مؤثر تقني مستجد في كلّ انعطافة تقنية وبين العقل البشري: يعمل المؤثر التقني على إعادة تشكيل نمط التفاعلات البشرية بين البشر أنفسهم وكذلك مع بيئتهم، ومع تعاظم التأثير التراكمي لهذا المؤثر يبدأ العقل البشري في الاستغناء عن أنماط تفاعلية قديمة وإحلال أنماط جديدة محلّها، ثمّ تبدأ هذه الانماط الجديدة في ممارسة تأثيرها على العقل البشري بما يعزّزُ من دينامية فعل الاستغناء والإحلال في إطار تغذية استرجاعية ينتج عنها إعادة هيكلة منظورات الفرد والبنى الاجتماعية معاً. لامناص إذن مع حلول كلّ ثورة تقنية أن يعاد تشكيل الأنساق الاجتماعية ؛ وعليه ستُعاد – بالضرورة – منظورات علم الاجتماع التي كانت سائدة من قبلُ.

كتاب « علم الاجتماع الرقمي: منظورات نقدية « الصادر في يوليو (تموز) 2021 عن سلسلة كتاب عالم المعرفة الكويتية، يمثلُ مساهمة ترجمية عربية متقدّمة لإثراء هذا المبحث ذي الاهمية الستراتيجية. مُحرّرا الكتاب هما: جان فان دايك، أستاذ علم الاتصال في إحدى الجامعات الهولندية، و أندرو ويبستر، أستاذ علم الاجتماع والتكنولوجيا في جامعة يورك بالمملكة المتحدة. مترجم الكتاب هو الدكتور هاني خميس عبده، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة الاسكندرية.

يضمُّ الكتاب مقدّمة إجمالية مهمّة تشرحُ هيكلية الكتاب، يعقبها خمسة عشر فصلاً تنتهي ببيبلوغرافيا كثيفة وشاملة لكلّ جوانب الموضوعات المبحوثة في الكتاب.

تكشفُ لنا مقدّمة الكتاب أنّ الانتشار المتزايد للتقنيات الرقمية في الحياة اليومية أدّى إلى تأجيج الجدل الأكاديمي حول العلاقات والبنى الاجتماعية في ماسُمّي بـ “ عصر المعلومات «، وقد نشأ عن هذه الجدالات مجال بحثي في إطار العلوم « البينية interdisciplinary « المشتبكة والعابرة للتخصصات المنفردة. عُنِىيَ هذا المجال المستجد بالتعقيدات والتناقضات المتعلقة بالتحولات التي يُعْتَقَدُ أنّ تقنيات الاتصال والمعلومات تُحدِثُها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يؤكد المؤلفون على مظاهر الجدّة في هذا الحقل المعرفي عندما يصرّحون في المقدّمة بأنّ « علم الاجتماع وخيالنا السوسيولوجي يواجهان مشاهد رقمية جديدة بدءأً من الذوات الالكترونية (أي بمعنى الهوية الرقمية الموصوفة بالحساب الالكتروني) إلى مجتمعات الانترنت، ومن حرب الإعلام إلى اللامساواة الشبكية، ومن الثقافة إلى البنية الاجتماعية. «

يتمايز علم الاجتماع الرقمي عن نظيره الكلاسيكي (علم الاجتماع ماقبل الرقمي) في تفاصيل عديدة ؛ غير أنّ الميزتين الاكثر أهمية من سواها هي أنّ علم الاجتماع الرقمي لايمكن أن يُدرس بمعزل عن علم إجتماع التقنية وتقنيات المجال الاجتماعي، كما أنّ علم الاجتماع الرقمي يُدرَسُ في بيئة مجتمع التواصل الشبكي Networked Society، وليس من الممكن أو المتاح تشريحُ فردانية الكائن البشري بمعزل عن هذه الخصيصة التواصلية الشبكية.

يتشكّلُ هيكل الكتاب من خمسة أجزاء يركّز كلّ جزء منها على إهتمامات سوسيولوجية أساسية هي: العلاقات، والفضاءات، والبنى، واستخدام الوسائط، والممارسات. صُمّمَ الكتاب بطريقة جذابة بحيث يضمُّ كلّ جزء ثلاثة فصول، الفصلان الأولان مترابطان ويمكن قراءتهما على أنهما سردية ممتدة لكن من منظورات مختلفة، ثمّ جُعِل الفصل الثالث ليكون بمثابة تفكير نقدي واسع النطاق في مجموعة الأفكار المثارة في الفصلين السابقين، وحرص المؤلفون كلّ الحرص على الكشف عن « الاستفزازات « الرقمية ومايمكن أن تتسبّب فيه من إعادة تشكيل حياتنا ومفاهيمنا.

يتناول الجزء الأوّل موضوعة « الحميمية Intimacy “ ومايرتبط بها من العلاقات الشخصية في المجتمعات الحديثة، ويمكن القول أنّ هذا الجزء هو استكشاف لمجال العلاقات والحياة الشخصية في خضمّ دراسة الطبيعة الجندرية وكيفية تفاعلها مع المؤثرات الرقمية. تطرح فصول هذا الجزء تساؤلات مثيرة حول السبل التي يجري فيها إقحام التقنية في العلاقات الشخصية، وفي التوازن بين الفضاءات العامة والخاصة، وفي الحدود المتلاشية بين فضاء المنزل وفضاء العمل، كما تدفعنا هذه الفصول إلى التفكّر في ما تعنيه الحرية الشخصية والرقابة بوصفهما جزءاً من الحياة الرقمية اليومية التي يبرز فيها التأثير الجندري.

يعالج الجزء الثاني موضوعة مفاهيم الفضاء والمجتمع والاتصالية connectivity باعتبارها أماكن رقمية تمثل بيئات افتراضية يتفاعل فيها الناس حول موضوعات محدّدة. يمكن لعلم الاجتماع فهم المكان على نحو افضل عبر إثارة التساؤلات السوسيولوجية عن المراقبة، والثقة، والخطر، والحراك الاجتماعي Social Mobility، وهنا تنشأ نقاشات جديدة حول طبيعة النشاط الانساني والفضاءات الافتراضية / المادية التي تمثلها الحواسيب المربوطة في نطاق مجتمع شبكي كثيف الاتصال. من المثير في هذا الشأن الحديث عن نشوء مايمكن توصيفه بـ « اللاوعي التقني Technological Unconscious “ الذي قد يصبح موضوعة شديدة الأهمية في نطاق مباحث علم الاجتماع الرقمي.

يتناول الجزء الثالث موضوعة البنى الاجتماعية في المجتمعات المتصلة شبكياً، ويركّز على إعادة واستمرارية إنتاج اللامساواة وعلاقات القوة الناجمة عن التراتبيات الهرمية. تمثل الفجوة الرقمية Digital Divide حجر الزاوية في هذه اللامساواة. نحنً نتصوّرُ أنّ التقنيات الرقمية تمثلُ نوعاً من الديمقراطية الرقمية التي من شأنها فتحُ منافذ لفرص ماكان ممكناً تصوّرها في العصر ماقبل الرقمي ؛ لكنّ المؤلفين يكشفون لنا أنّ هذه التقنيات تتمتع بقدرة غير مسبوقة، وحتى من دون تدخل سياسي، في مفاقمة حالة اللامساواة على شتى الأصعدة: تعليمية واجتماعية ومادية. يقدم المؤلفان في هذا الجزء مثالاً تطبيقياً مهماً عن الكيفية التي يمكن بها إستخدام التحليل الشبكي في تفسير حالة اللامساواة المادية التي توجد في مجتمع المعلومات، ويوظف المؤلفون أسواق المال بوصفها مرآة يمكن من خلالها دراسة المفاهيم الاجتماعية للزمن والفضاء والثقافة والقدرة على الفعل. إنّ دراسة العلاقة المعقدة بين عالم المال والمعلومات تمثل مجالاً ثرياً لإستكشاف الارتباطات بين تقنيات المعلومات والاتصالات والاقتصاد والبنى الاجتماعية، وستظلّ عاملاً من عوامل تعاظم اللامساواة في العصر الرقمي.

أما الجزء الرابع من الكتاب فيتناول موضوعة الوسائط، ويكشف عن الكيفية التي أعادت بها التقنية الرقمية صناعة مشاهدنا الإعلامية بما نجم عنه تغيير دور الفاعلين الاجتماعيين الذين هم في الغالب مواطنون عاديون لاتزيد كفاءتهم التقنية عن كفاءة أي مستخدم عادي للحاسوب ووسائل التواصل الاجتماعي. صرنا مجتمعات محكومة بالوسائط الرقمية كما يؤكد المؤلفون في هذا الجزء. ثمة سؤال جوهري في هذا الجزء مفاده: ماذا يعني أن ننظر للمجتمع بوصفه شبكة؟ ينتهي هذا الجزء من الكتاب إلى إجابة فحواها: المجتمع بوصفه شبكة يعني كيفية الربط بين الفاعلين الاجتماعيين من خلال وسائط وأساليب جديدة، ودراسة ماقد يترتب على هذه الفاعلية من تغييرات في البنى المجتمعية.

يتناول الجزء الخامس موضوعة الممارسات، وقد إختار ميداناً لهذه الممارسات إثنتين من الممارسات الأكثر شيوعاً في مجتمعات ماقبل ثورة التقنية المعلوماتية والاتصالية، ونعني بهما التعليم والصحة. ربما يكون قطاع التعليم أكثر القطاعات تأثراً بالتغيرات الجديدة في الممارسات الرقمية، وقد ساهمت الجائحة الكورونية الراهنة في تعميق وتثوير أنماط التعليم عبر التأكيد المتزايد على الفرد وتجارب التعلّم التشاركية والمحكومة بالوسائط الرقمية، وهي في مجملها جزء من الاشكال الجديدة لإنتاج المعرفة واستهلاكها. لايمكن نكران بعض الاشكال الفوضوية وغير المنتجة التي إقترنت بتجربة التعليم الألكتروني المكثف عبر الوسائط الرقمية ؛ لكنّ الخبرات المتزايدة كفيلة بالارتقاء بتلك التجربة وتحسين مخرجاتها وجعلها أكثر رصانة وكفاءة.

قد يرى البعض في كتاب « علم الإجتماع الرقمي: منظورات نقدية « لمسة من نخبوية أكاديمية بعيدة عن اهتمامات الفرد العادي المهتم بإدامة متطلبات حياته اليومية ؛ لكنّ هذه محض رؤية قاصرة. نحن نعيشُ اليوم في عالم يشهد تغيّرات ثورية تفرضُ إيقاعها المتسارع علينا شئنا أم لم نشأ، وباتت الحدود الفاصلة بين الاهتمامات الاكاديمية النخبوية وتلك العامة تتضاءل يوماً بعد آخر، وليس من سبيل سوى التحصّل على معرفة جادة ورصينة بالمستويات العالية المهيمنة لهذه الاهتمامات الجديدة ومن ثم توظيفها في الارتقاء بحياتنا. هذا هو مايفعله نظراؤنا البشر في هذا العالم.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top