(الشاعر الملهم وايقونة الغناء) رواية تسرد يوم عشق حقيقي.. بين ايقونة الغناء الاوبرالي ماريا كالاس مع الشاعر بازوليني

(الشاعر الملهم وايقونة الغناء) رواية تسرد يوم عشق حقيقي.. بين ايقونة الغناء الاوبرالي ماريا كالاس مع الشاعر بازوليني

روما: موسى الخميسي

كانت أشهر علاقة حب دون عناق في القرن العشرين، بين الشاعر والسينمائي والرسام والروائي (بيير باولو بازوليني 1922ــ 1975) الذي تحتفل إيطاليا هذا العام بالذكرى المئوية لميلاده،

ومن الجانب الآخر ايقونة فنّ الأوبرا (ماريا كالاس، 1923ـ 7719) التي عاشت حياة صاخبة على المستويين الفني والشخصي، متنقلة بين اليونان وإيطاليا وفرنسا. منذ نشأتها إلى حياتها العاطفية الصاخبة، خصوصاً علاقتها بالملياردير اليوناني ارسطو اوناسيس، التي دامت عشر سنوات. فإلى جانب صوتها الدرامي العظيم، كانت كالاس تضفي على أدائها التعبير الداعم للكلمة والموسيقى والتمثيل.

إنه عام 1969، الذي شهد الهتك الجريء لكل اشكال التابوهات الأخلاقية والاجتماعية السائدة في الوسط الإيطالي في الستينات من القرن الماضي، وأبرز مفارقات تلك السنة، الأكثر غرابة في حياة بازوليني، الدوران في حلقة مفرغة ومخاتلة لحلم لا يبرح العتبات ويراوغ من اجل ان يظل هو الشيء ونقيضه معا، لقد وضع بازوليني الجميع امام ذات شاعرة قلقة، لا تمل من البحث عن نفسها، محاولة الإمساك بنقطة توازن، او يقين مضاد لتتمثل في الجانب العاطفي، الذي تمحور بشكل كلي حول شائعة عشقه لماريا كالاس.

كان اللقاء الحميمي الاول بين الاثنين في بلدة “جوريم” التركية، اثناء فترة التصوير، في فضاء ليلة واحدة بعد يوم حافل من التصوير المخصص لإنتاج فيلم “ميديا” الذي هو تعبير عن التراجيدية الإنسانية في أقصى صورها وأشكالها. ففي هذا الفيلم المقتبس من العمل المسرحي اليوناني الكلاسيكي، ينقل بازوليني إلى الشاشة قصة “ميديا” التي قتلت أطفالها بعدما أعلن والدهم “جايسون” فكّ ارتباطه بها والزواج من أميرة أصغر منها سنا. وتتوالى أحداث الأسطورة إلى المأساة المفجعة التي وصلت إليها “ميديا” في النهاية، حيث قامت بقتل أبنائها انتقاما من زوجها، الذي تزوج عليها بعدما قدمت له كل شيء.

كان بازوليني بعيدا عن عالم الاوبرا الذي كان يرى فيه فن منحاز للذوق البرجوازي المترف، الا انه كان مشدودا الى فتنة صوت كالاس التي قال عنها في احدى مقالاته “على الأقل في بُعد واحد، احمل لها عاطفة تفوق أي حب”. من بعيد، كان الاثنان يكرهان بعضهما البعض. هي متطرفة في تقلبها المزاجي، وهو معتد بنفسه ومكابر، فقد سيج نفسه بمجموعة من الفرضيات المثلية عن الجنس. أنها بدت في نظره، رغم مساواتها له في السن، تجسيداً ملموسا لانطلاقة الشباب وجرأته. بعد هذا اللقاء، اختار بازوليني ماريا كالاس لتجسد شخصية “ميديا” في الفيلم، في دورها السينمائي الوحيد. ومع انه كره بيئة الاوبرا وتفاخرها البرجوازي، الا انه اعتبر شخصية كالاس مطابقة لنواياه لتقوم بدور الام القاتلة، فهي “امرأة طفلة، غير آمنة ومندفعة، ساحرة وريفية حالمة، ضحية عاطفة رجل المال والبترول”، كما سبق لها وان قامت بدور ميديا بشكل رائع في اوبرا للموسيقار “لويجي تشيروبيني”. وقد صوّر بازوليني الفيلم في عدة أماكن في عدة مدن إيطالية، وتركيا، وأيضاً في قلعة حلب الشهيرة. ولأول مرة في هذا الفيلم لم يستدعي بازوليني ممثلين من الشارع، ولكن شخصيات حقيقية ومشهورة. فقد اختار الرياضي الشهير جوزيبى جنتيلى، بطل الوثب الثلاثي الذي كان عائدا برقمين قياسيين عالميين في الأولمبياد المكسيكية العام السابق، ليقوم بدور” جايسون”. من جانبها، وجدت ماريا كالاس فرصة للقاء بازوليني. وفي العقد الموقع بين الطرفين، تم إدخال بند يحظر التصوير العاري. تم تصوير الفيلم في كابادوكيا وحلب وبيزا وبحيرة جرادو. لا تنسى ماريا كالاس الأزياء الثقيلة جدا التي سجنت فيها، وهي تتحرك كأنها نصب تذكاري حي يبدو قادرا على أخذ كل شيء، الشمس والأرض وعناصر الكون. لكن تحت هذا الدرع من الثياب، رأى بازوليني بانها شخصية مبهجة وجذابة وحساسة إزاء الجمال، ومندفعة عاطفيا، ضحية عاطفة أوناسيس الوحشية، بالمقارنة مع وداعته. وهكذا انطلقت شرارة الاعجاب المتبادل والانجذاب الشخصي. ولعل من باب المفارقة البحتة ان تكون الحياة البوهيمية الصاخبة التي عاشتها، هي التي اهدت لبازوليني فرصة اختيارها لتلعب دور “ ميديا” التي كسرت بلا شفقة قلب زوجها الثري اوناسيس. لقد كان حضورها، قد جسد بالنسبة له “ منجم الوجود الروحي”.

بعد الانتهاء من تصوير فيلم” ميديا”، واصلت كالاس الشغوفة بالحياة والقراءة والفن، لقاءات متكررة مع وبازوليني، في روما وباريس، في نيس،بيزا؛ حتى أنها تبعته إلى مالي، وانغمست في بعض القبلات العفيفة وبعض التنزهات.

وباعتقاد مؤلف رواية “الملهم وايقونة الغناء” للروائي الايطالي” جوزيبى مانفريدي “التي صدرت هذه الأيام بمناسبة الذكرى المئوية لبازوليني، بان “موهبة الشاعر بازوليني المتوقدة ومعرفته العميقة بمفاتيح معاناة ماريا كالاس وأسرار حياتها المعقدة، هي من أبرز العوامل التي أعطت لماريا الانجذاب لشخصية بازوليني التي تتسم بصفاء السليقة وجاهزيتها الدائمة لالتقاط كل ما يحرك القلب من مشاعر عاطفية بالغة الاحتدام. بازوليني[MA1] كأي شاعر آخر، اتسمت شخصيته، بكثافة الأفكار والتطلعات المدهشة وشروحه الفضفاضة، وغوصه الرؤيوي ونصوصه الشعرية المفعمة بالحماسة “.

ومن هذا المنطلق، اشتغل الروائي على الذاكرة كعملية استرجاعية يحاكم بها الحاضر، باستعادة تلك اللحظات التاريخية للمكان كنتيجة حتمية، إذ تمثلت في استدعاء المرور بالكثير من المنعطفات والأحداث والشواهد الحيوية التي عاشها كل من بازوليني وماريا كالاس.

الروائي “مانفريدي، الذي اشتهر بكتابة قصص الأفلام والمسرحيات وصدرت له عدة روايات ناجحة حازت جوائز إيطالية واوربية مرموقة خضع لمنطق المصادفة المجردة أو الحدث العرضي، بل هي مجازفة جمالية، لواحدة من أجمل السير وأكثرها تشويقا، لما تتمتع به من صدق تعبيري وجماليات أسلوبية تلقائية واحتفاء عارم بالحياة، فهو لم يتوان عن اطلاعنا عن عشق بازوليني للمرأة الوحيدة التي أحبها بعمق، والتي اخترقت شغاف قلبه. ربما رغبة منه في مواراة شؤونه الحميمة خلف سياج شائك، لكي يوفر لأسطورته الشخصية ما يلزمها من الغموض والكتمان.

بعد العرض التجريبي الأول الخاص للفيلم، في بحيرة جرادو، قدم بازوليني لماريا خاتما: كان عقيقا قديما من مدينة “لأكويليا” التاريخية مزينا بأفاريز رومانية. أخطأت ماريا في هذه الهدية باعتبارها بيانا رسميا للخطوبة، لكنها لم تصل أبدا الى الهدف الذي كانت تسعى اليه، والأدل على أصالة هذه التجربة وعمقها الإنساني، هو استعصاؤها على الضمور وثباتها الصلب في وجه الزمن، ولد حب قوي بقدر ما كان من المستحيل العيش بين ماريا وبيير باولو، نظرا لأن رغبتها في الحياة الطبيعية لا يمكن أبدا التوفيق بينها وبين حياته الجنسية المثلية، والذي يتعارض مع الجوع الذي لا ينضب في روحها لذكورة الرجل. فهي أدركت بان علاقتها ببازوليني لا تستقيم، دون التوقف عند التباين الواضح في ميولهما الجنسية.

يقول “ مانفريدي” للشرق الأوسط حول ظاهرة كثافة الإصدارات للكتب والدراسات هذا العام، والتي اثار بعضها، وما زال موضع جدل واخذ ورد الى اليوم حول حياة بازوليني:

ان هذا التداول المستمر يغذي نوعا من الشعور بالحاجة لمعرفة عبقرية بازوليني، من خلال مساهماته وسيرته الذاتية وتأثيره في السياق الثقافي لإيطاليا والتي لاتزال غير واضحة المعالم. هناك فجوات كثيرة في هذه السيرة، تحتاج قراءة لفكر هذا المثقف الموسوعي واستكشاف واستنطاق الكثير من كتاباته ومواقفة التي لاتزال مخفية، عبر تحليل معمق لدوره الرائد في النصف الثاني من القرن الماضي. ان استعادة بازوليني بمناسبة مئويته، تكاد تكون اليوم ملحة، وذات صلة أكثر من أي وقت مضى في اعقاب التحولات التي تعيشها إيطاليا اليوم، وتقدم نموذجا ملهما للمثقف للتعاطي مع العديد من الأسئلة المصيرية التي ما زالت مطروحة.

ويضيف مانفريدي حول وثائقية السرد في روايته” ليس حبا واحدا، بل حبان، في الواقع: حب ماريا لبيير باولو، المحبط من العفة القسرية، وهذا لا يقل عنادا من بيير باولو لماريا. إنه ليس كتابا عن بازوليني، الذي يظهر في الواقع باسم عائلته فقط في البداية، ثم يتحول ببساطة إلى “بيير باولو”، ولكنه كتاب لبازوليني، في عام الذكرى المئوية له، ولمن يحبون قصص الحب العميقة والمستحيلة، والتي تجد في هذا الاستحالة بالتحديد السبيل لتمهيد الطريق للمضي قدمًا.

في هذه الرواية كل شيء صحيح وكل شيء متغير. من الصحيح قبل كل شيء أنه، في المجموعة، ولد حب قوي بقدر ما كان من المستحيل العيش بين ماريا وبيير باولو، نظرًا لأن رغبتها في الحياة الطبيعية لا يمكن أبدا التوفيق بينها وبين حياته الجنسية.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top