TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: عن الخشّابة والحروب الدينية

قناطر: عن الخشّابة والحروب الدينية

نشر في: 19 يونيو, 2022: 10:50 م

 طالب عبد العزيز

بيقين الباحثين فأنَّ الحروب التي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت باوربا، في القرنين السادس عشر والسابع عشر هي حروب دينية، ولعل حرب الثلاثين سنة بالمانيا هي الاشهر، والتي انتهت بالاوبئة والتدمير الشامل،

حيث شنت الكنيسة الكاثوليكية حرباً واسعة ضد الكنيسة البروتستانتية، وأبادت نحو 40‌% من شعوب اوربا، ممن يدينون بالبروتستانتية، بسبب رفض مارتن لوثر تعاليم الكاثوليكية، والغريب هنا، أنَّ الحروب هذه سميت بالحروب المقدسة، وهل كانت حروب الاديان إلا مقدسة عندنا؟

كان الفرن الواحد في عملية قتل اليهود التي قامت بها النازية ضد اليهود يسع لـ 2000 شخص، عملية الهولوكوست التي تعني(الحرق من أجل الله). وتحت شعار ديني ايضاً تم قتل أكثر من 70‌% من العوائل الارمنية التي هُجّرت عن البلاد على يد الأتراك العثمانيين سنة 1915 وتم سلب ممتلكاتهم. وتحت مسمى الدولة اليهودية قامت مذابح الفلسطينين على يد اليهود، الذين ابتدأوا حربهم بقتل 600 فلسطيني، في مذبحة بلدة الشيخ(تل غنان) الحرب التي ما تزال قائمة الى اليوم، وبالمسمى الديني ذاته، وما حرب البوسنة والهارسك إلا الصورة قبل الاخيرة للحروب الدينية هذه، هل نقول بأنَّ الحرب العراقية الايرانية كانت غير ذلك، في بعض اسبابها؟

ولعل تاريخنا العربي المسلم من أزخر التواريخ في رواية الحروب الدينية، بل وبما يفوق ما حدث في اوربا وغيرها من بلاد الله، هذه الحروب التي لم تهدأ منذ قرون، أو انها تهدأ لتنشب ثانية، وكلها تدّعي الحفاظ على حقيقة الله ودينه، منذ معركة بدر الى حروب الربيع العربي الداخلية في العراق وسوريا واليمن ومصر وغيرها، ما معلن منها أو ما لم يعلن عنه، فكل عربي مسلم ينطوي على رأيٍّ دينيٍّ، يدفع به الى كراهية الآخر المختلف، داخل طائفته نفسها، وبسبب أدق التفاصيل أحيانا.

في القرية الصغيرة حيث أسكن، بأبي الخصيب، فتحت عيني على ثلاث طوائف امامية، وواحدة لأهل السنة والجماعة، كلهم من عرب ضفتي الشط، الذين جاؤوا من الحجاز والبحرين والاحساء، قبل مئات السنين، ملّاكون وفلاحون وسمر وفقراء، تجمعهم كلمة الله في الظاهر وتفرّقهم تفاصيل دينه في الباطن، لكنني، واشهدُه هنا، انهم لم يحتربوا على مسألة بسيف قط، غير أنَّ بواطنهم وسرائرهم كانت تقول غير ذلك، وهناك كراهة وشماتة مضمرة، يتداولونها بينهم، يتلمس أطرافها كلُّ قاعد في مجالسهم، وأحمد اللهَ، أنه لم يخلق بينهم خبيثاً مغرضاً، فقد ظل فتيل الفتنة خامداً الى اليوم. لم يجمعهم مسجدٌ واحد، إلا في صلاتهم على الموتى منهم، ولم يولوا أمرهم إلا لأئمتهم، خاصتهم، فهم مختلفون في العبادات والمعاملات، لكنني رأيتهم يجتمعون في ولائم الطعام وعلى الطبل في الخشابة والله.

ولعل أغرب حكايات قومي هؤلاء ما سمعته من أحدهم، عن أحدهم، المختلف، والذي توفي، قبل قرن من الزمان، يقول بأنه لمّا توفي فلان، أمَّنّ أهله جنازته في مقبرة للأطفال، قرابة اربعين يوما، ولم يذهبوا بها الى المقبرة البعيدة، بسبب الفيضان، وهي طريقة معتمدة في البصرة والجنوب ربما، في أيام الحروب والفيضانات، لكنهم حين أخرجوا الجثة، بغية نقلها الى المقبرة والقول ما زال له وجدوها سالمة إلا في فمه، فقد أتى الدود على شفتيه وأكلها. يقول هذا المختلف شامتاً: ” هذا لأنه كان يلعنُ ويشتمُ علماءَنا وفقهاءَنا».

لكنني، فخور، ففي القرية ذاتها، شدّةٌ للخشّابة، تجمعُ مختلف ملل وطوائف القرية، فتجد الكاسور من ملة، ومغني المقام من ثانية، ومطرب البستات من ثالثة، والجاووش الذي يرفع الغترة عن الراقص الجميل من رابعة، وجماعة اللوازيم من الفرق كلها، يشربون العرق بطاسة واحدة، ويغنون أغنية واحدة، ويرقصون الرقصة ذاتها، ويضحكون من كل قلوبهم على الطُرْفة، من أيِّ فم جاءت... فهم في ودٍّ ووداد، حتى الصباح، متصلٍ وعميم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. جعفر صادق رشيد

    كلمات جميلة تعبر عن واقع الانسان تجمعهم كلمة الله في الظاهر وتفرّقهم تفاصيل دينه في الباطن .

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram