تخوم المتوسط.. حيث ينتهي شجر الزيتون

تخوم المتوسط.. حيث ينتهي شجر الزيتون

لطفية الدليمي

البحر المتوسط ليس كأي بحر، المتوسط جسد الحضارة البَدْئي، سُرّةُ الثقافات الاولية والاولى ، مِنْ شطآنه أشرقت شموس حضارات غدت مرجعياتٍ لكل ثقافة في عصرنا والعصور السالفة، هو البحر الذي يسميه الروم:

بحرنا ؛ لكنه بحر الشعوب كلها، تمتد ظلاله إلينا ونبادله بشمس ورياح. يختلط مصير المتوسط بمصائرنا ؛ فمايحدث في القاهرة وتونس يعكس ظلاله على بغداد بأسرع مما يتوقع المتنبئون، يعجننا بمصير اليونان الذين يبحثون عن أنفسهم داخل الماضي أكثر مما يفعلون ذلك داخل الحاضر ويعجزون عن الجمع بينهما، تماماً مثلما يفعل العرب الحالمون بما تهاوى من عصور هم الغابرة.

بحرهم وبحرنا أسطورة الماء ووطن الحوريات وبوسايدون (إله البحر والعواصف والزلازل في الميثولوجيا الاغريقية) ، هو بيت الغرقى ومرآة أحلامهم الذائبة في الملح. يتساءل (بريدراج ماتفيجيفتش) مؤلف كتاب (تراتيل متوسطية): هل يمكننا تخيل تأريخنا المشترك دون اليونان؟

تاريخ أوروبا الذي تغير، يمد جذوره اللامرئية في اليونان، وحتماً ثمة امتدادات إلى روما والحضارات العربية التي عرفت أرسطو وبطليموس قبل الأوروبيين. يقول مقدّمُ الطبعة العربية للكتاب (ميشيل براندينو) مايؤكد حقيقة الحضارات التي هبت رياحها من الشرق إلى الغرب:

( تبنّى البتّاني منظورات بطليموس وأكملها الخوارزمي وتجاوزها البيروني الذي سبق غاليليو. مرّت المعارف الجغرافية من الشرق والجنوب إلى غرب وشمال المتوسط.....).

البحر شهوة الهروب الكبير والرحلات إلى مجاهل الزمن سواءٌ كان المغامر سومرياً أو إغريقياً، مصرياً أو أي مغامر ركب البحر بحثاً عن أجوبة للحيرة ولجلجة السؤال. البحر المتوسط بلورة جمعت إشعاع الحضارات التي تشكلت على جانبيه ونشرت ضوءها في العالم ، رسم الادريسي بخريطته وأحلامه القرطبية شطآن المتوسط الذي صار مختبراً للتعرف على أساطير البشرية وجذورها المؤسسة، وسوف تكتشف الشعوب العربية – ربما أكثر من الشعوب الأخرى – مصيرها ؛ ذلك أن المتوسط كما يقول المؤلف « لايورث بل يُكتسب ولايتعلق الأمر فقط بالتاريخ أو بالتقاليد أو الجغرافيا والجذور أو الذاكرة أو المعتقدات «. إن المتوسط قدرٌ أيضاً.

المتوسط ملك البحار، كيف تصدى له كاتب مثل (بريدراج ماتفيجيفتش) وتوغل في كنوزه وأسراره ومنحنا كتابه البهيج؟ الكتاب أكثر من حكاية ؛ إنه مهرجان الخرائط والملح والمرجان والسفن ووردة الرياح والتاريخ المتدفق من خرائط الجغرافيين، يتراكم التاريخ في المرافئ المتوسطية والخلجان المجهولة وسط خرائط تسمي كل شيء وتعمد التاريخ بماء ودموع، المتوسط بحر يذهب بعيداً إلى الأطلسي، تعمّرُهُ الجزر والسفن الغارقة وتدور بين رياحه أغاني الجنوب والشمال والمشرق والمغرب لتضفر من بلبلة اللغات جديلة موسيقى.

أحببت المتوسط قبل عقود عندما سافرت من بيروت بباخرة يونانية إسمها أثينا أو ثيساليا إلى الإسكندرية، ولفرط نشوتي بالبحر هبت علينا عاصفة ونوء، دُخْتُ بدوار المتوسط ، ترنحتُ ولزمتُ الفراش، قدّموا لي الجبنة اليونانية (الفيتا ) المالحة وأنا أضحك من خدر الدوار، لزمت السكون ساعة في فراش متأرجح ، ثم نهضت أتملى حبر الأعماق ورحيل الشمس وغفوة النجوم على سرير الموج.

عندما قرأت (تراتيل متوسطية) أصبت بدوار من النشوة، وشتان مابين دوار البحر الشرير وأنت تبحر فيه ودواره الممتع وأنت تفضُّ أسراره في كتاب التراتيل وتسمع الهمهمات الاغريقية والرومانية والفينيقية والعربية والفرعونية والبيزنطية والكاتالونية والتركية، تنصتُ لأغاني السيرينات المستوحدات في الجزر والمضائق وترى انسحار ملاحي أوديسيوس وهم يلقون بأنفسهم بين أذرع السيرينات المعجونة من ملح ومرجان ، وهناك تبقى مسافراً مأسوراً في غثيان الواقع.

تراتيل ماتفيجيفتش المتوسطية

يخبرنا بريدراج ماتفيجيفتش الكاتب وأستاذ الادب المقارن في كتابه هذا : (حكماء العصور القديمة كانوا يلقنوننا بأن تخوم المتوسط توجد حيث ينتهي شجر الزيتون) ، وفسّر لنا الكاتب أننا وإن كنا نعرف امتداد مياه البحر المتوسط فإننا لانعرف إلى أي حد يمضي البحر ولانعرف المدى الذي وصلت إليه ثقافة المتوسط في البر.

يكتب ميشيل براندينو في مقدمة النسخة العربية أن كتاب متفيجيفتش يحمل جواباً جوهرياً ومدهشاً عن سؤال طالما تردد لدى الباحثين والمفكرين: ماالمتوسط؟ الكتاب موجّه ضروري للانسان المعاصر .

كتاب التراتيل سِفْرٌ يجمع بين ثقافة كونية ومعارف واسعة ويقارب في جدليته - كما يقول كلوديو ماجريس في مقدمة الكتاب – بين تقارب وتباعد الحياة والأشياء والتاريخ ، وهو منحاز للذاتية في الرؤية دون أن يتنكر للكونية ويقاوم الكليانية دون تجاهل منظور شمولي للواقع.

المؤلف يوغوسلافي واستاذ للادب الفرنسي بجامعة زغرب والادب المقارن في السوربون، عاش منذ بدء الحرب اليوغوسلافية ثلاثة أعوام في باريس ثم انتقل للعمل في جامعات ايطاليا، وهو رئيس اللجنة الدولية لمؤسسة (مشغل البحر المتوسط) في نابولي ومستشار شؤون المتوسط في مجموعة العلماء بالمفوضية الاوروبية. هو كاتب شجاع له مداخلات سياسية وأبحاث أدبية واسعة ورسائل مفتوحة وجهها إلى قادة العالم من أجل الدفاع عن الحريات وضحايا السلطة.

يتحدى الكتاب جميع الأجناس الادبية ؛ فبحره المتوسط ليس المجال التاريخي الثقافي فقط والذي درسه الباحثون، وليس هو المجال الصوفي الروائي الذي احتفى به أندريه جيد والبير كامو، إنه عمل ينهل من الخرائط البحرية والرحلات والهجرات والمعاجم ومن البحث العلمي والرواية. إنه الكتاب الكنز، ولعلي لا أبالغ إذا ماقلت أنه ذكّرني بكتاب (الرمل) الخرافي الذي ابتدعه بورخيس ؛ فكلُّ صفحة من الكتاب مكتبة هائلة من المعلومات والمتع الابداعية. لم يستند الكاتب إلى المصادر ويقرأ الموسوعات حسب بل قرأ العالم والواقع والحركات ونبرة لغات البشر وأسلوب إدارة الموانئ وتمدد الطبيعة في التاريخ والفن وأشكال السواحل وطُرُز المعمار وهو يرسم حدود ثقافة شجر الزيتون في امتداد الديانات أو هجرة سمك السلور، يقرأ التواريخ والمصائر في اللغات الزائلة ولغة الامواج والأرصفة ، يصير الكتاب ملحمة سخية بالأسفار ، وبهذا وغيره يأسر الكاتب البحر المتوسط ويمازجه بمذاق الزيت والخمر ولون الامواج وحمرة المرجان.

ساقتطع فقرات من هذا الكتاب الساحر الممتع فهو جنس أدبي أكثر حضوراً من البحث العلمي وأجمل من الرواية، إنه بحثٌ في مجاري الانهار الذي سعى كاتبه في الأنهار العظمى ومنها نهر الدانوب ليتحدّث عن الحنين الكبير للبحر وتداخل الثقافات:

( يحتضن المتوسط أجزاء واسعة من القارة الاوروبية ويخضعها لتأثيره ؛ فحدود ثقافته غير مندرجة لافي المكان ولافي الزمان.... إن هذه الحدود ليست تاريخية ولاعرقية ولاوطنية ولادولية، إنها دائرة طباشير لاتتوقف عن الرسم والامحاء...... فعلى طول الساحل كانت تمر طريق الحرير وطريق العنبر وتتقاطع مع طريق الملح والتوابل والزيت والعطور طرقُ الأدوات والأسلحة والفنون والمعرفة والنبوءات والإيمان..... )

يمضي بنا ماتفيجيفتش ليحدثنا عن معاناة الخطاب المتوسطي من الثرثرة حول الشمس والعطور وجزر السعادة والفتيات سريعات النضج والارامل المتشحات بالسواد والموانئ والنخل والزهو والبؤس والاوهام، وماكرّره الادب من أوصاف وأقوال خدمت البلاغة المتوسطية الديموقراطية والديماغوجية، خدمت الحرية والاستعباد، واستحوذت على المعبد والسوق، على العدالة والوعظ الفارغ.

مزاج الشعوب المتوسطية

يلاحق الكاتب المتناقضات المتوسطية، الهندسة والشكل والمنطق والعلم، ومن جهة أخرى يلاحق أضدادها: الكتب المقدسة وكتب التصوف في مواجهة الحروب الصليبية أو الجهاد، الذهن الكنائسي ونبذ التعصب، ساحة السوق والمتاهة الديونيسية ومكر سيزيف وخداعه، المشرق والمغرب، المسيحية والاسلام.

يتفحص الكاتب مزاج البشر المتوسطيين وشتائمهم الفاضحة وشهواتهم وشجارهم وعلاقتهم بالموج والريح والنجوم، يكتشف تدفق الانهار إلى البحر وحنينها له:

(تخترق الانهار المتوسطية البحر بطرائق مختلفة: يفعل بعضها ذلك باحتفال وكأنها راضية بإنجاز واجبها، البعض الآخر يبدو مفاجئاً ويدخل بفتور، يكون بعضها راضياً والآخر متردداً أو مستسلماً، تزجُّ الاولى مياهها على مضض بالبحر..... عبرتُ كثيراً من أنهار المتوسط متتبعاً مجراها واستحممتُ فيها وتنشقتُ الروائح التي تفوح من نباتاتها، تختلف أنواع القصب من مصب لآخر ..... وليس للصنوبر نفس الرائحة في محيط الانهار أو بعيداً عنها، إننا نعرف في روائحه مختلف مناطق المتوسط..... ترسم شجرة التين حدود ثقافة المتوسط وتوسعها في المكان الذي يتراجع عنه شجر الزيتون، تختفي شجرتا البرتقال والليمون فيما وراء المصبات....)

يصف الكاتب ترحل البدو بين ليبيا والمغرب، يحدثنا عن دولتهم التي يمثلها العراء الصحراوي، يروي عن هجرة الاتراك من أعماق آسيا الى سواحل المتوسط وعن تسمياتهم وعاداتهم مثلما يتحدث عن الأقباط وهجرة اليهود مع موسى، عن العرب الذين فتحوا البحر بسيادتهم على البر من الشرق الى الغرب، جاؤوا وهزموا الأسطول البيزنطي قرب رأس الفينيق، مثلما تقدمت هجرات الشعوب التي تتعقب الشمس عرف العرب قبل غيرهم استعمال القطران ومصطلح أمير البحر الذي صار (أميرال)، ومنهم أحمد بن ماجد العارف بفن الملاحة دليل فاسكو دي غاما.

أجملُ مايكشفه لنا بريدراج أنّ المتوسط أكبر من أي انتماء بسيط، والمتوسط لايتحمل التقسيمات الضيقة جداً، إنها خيانة للبحر حين يعدّهُ خطابُ التمركز الاوروبي نتاجاً لاتينياً خالصاً أو رومانياً وأن يحكم عليه من وجهة نظر اغريقية أو عربية أو يهودية، المتوسط لايتحمل التجزئة ولايقبل تحريف صورته من قبل شعراء المناسبات والمبشرين وخطباء السياسة وبعض العلماء:

(لقد دأبت الدول والكنائس، السلاطين والاساقفة، المشرعون العلمانيون والدينيون، على تقسيم المكان والناس ؛ لكن الروابط الداخلية تقاوم التقسيمات. المتوسط أكبر من أيّ انتماء بسيط.....)

ويتساءل بريدراج ماتفيجيفتش: إلى أي حد ينسجم ماضي شعب ما وتاريخه واقعياً مع هذا الرابط – البحر ؟

الشعر يسمّي الرياح ويعمّدُها

المتوسطيون الثملون بنشوة النبيذ والشعر يتحدثون عن الأمواج أكثر مما يفعلون مع الرياح، ربما لأنّ الرياح تؤثر أكثر في المزاج والخطاب، تصنيف الرياح التي يقترحها علماء الارصاد الجوية بسيطة وعملية فلها أسماء تنتمي للجهات : رياح (اليوغو) الجنوبية تتعاقب على الادرياتيكي مع رياح (البورا) الشمالية، وريح (المايسترال) الناعمة تهب من البحر، وريح (لوفانا) تاتي من الشرق و(البولونا) تهب من الغرب. الشعر لايعترف بهذه التصنيفات محدودة الافق ؛ فهو يطلق على الريح صفات ذكورية أو أنثوية، شبقية، مغرية، سماوية أو شيطانية، غضوباً أو كيسّة،، مداعبة، موسيقية تلك التي تهيج الصداع أو تلك التي تحرض على رؤية الحياة بكامل سحرها، هذه التي تلهم الشعر أو استلهامات الفن، الرياح وحركاتها تغيّرُ ألوان البحر، في لحظة ما يصير البحر نفسه - كما يصفه بريدراج – ؛ بل أنه يتعرى، وعندما يتعرى البحر يمكننا أن نتخيل مانشاء : قصوراً قديمة أو بقايا مدينة غارقة. البحر مرقد التيارات الغامضة.

يقدّمُ الكتاب إجابة جوهرية في مروياته عن جذور الحضارات وأساطيرها و اللغات وتطورها، إنه رواية التكوين الكبرى لرحم حضاري ممتد من الشرق إلى الغرب على سواحل المتوسط .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top