الـزعـيـــم

الـزعـيـــم

علي بدر

الجزء الأول: ما لم يخبرك به نوري السعيد من قبل

يجب ألا يكون هنالك صراع مع المهزومين أو مع الأموات

فرجيل «شاعر روماني»

حلم ومرآة مهشمة

قبل النوم أزلت ورقة التقويم المثبتة على الحائط، الثالث عشر من تموز من العام 1958.

لقد اعتدت أن أنام باكراً منذ عشرة أعوام تقريباً، كلبي لاسي في ممر المنزل، والببغاء بيبي في قفصه في الطارمة وهو الوحيد الذي يحييني كلما أويت إلى فراشي: «تصبح على خير باشا»، لم يكن أحد من المنزل سواي. وكنت أعرف أني سأصحو صباحاً على صوت إذاعة بغداد لسماع نشرة الأخبار، حينها سيكون سائقي عبود قد حرك سيارتي الروز رايس في الباب، سأرتدي ملابسي وحالما أصل إلى الصالة سيكون الخادم قد جلب لي الخبز والقيمر والعسل سأتناول فطوري وأشرب شايي المعتاد في الصباح مثل كل يوم منذ ثلاثين عاماً قبل أن أذهب إلى سراي الحكومة.

لكني في الليل صحوت على حلم غريب. لم أكن هنا في منزلي، كنت في منزل آخر، منزل موحش خال من الأثاث. وأنا أقف أمام المرآة بصورة واجمة، لي وجه موحش، وصوت قادم من خلفي يستجوبني دون أن أفهم أسئلته. كنت محموماً وغريباً ولكني لم أكن ضعيفاً، وحين حاولت أن أتبين وجهي جيداً في المرآة تهشمت وأصبحت عندي قدمي قطعاً صغيرة بعد أن أدمت وجهي. استيقظت من النوم متعرقاً، مرتجفاً، شاعراً بعطش شديد، وقلبي يخفق بقوة. حاولت تمالك أعصابي دون أن أفلح. نهضتُ من فراشي وسرت في الممر، عبرت كلبي لاسي الذي لم ينهض من مكانه، واتجهت إلى المطبخ. أشعلت الضوء وتناولت كأساً من الماء ثم عدت إلى فراشي، إلا أني لم أهدأ. لقد شعرت بفراغ كبير في قلبي، كما لو أن شيئاً سيحدث لي قريباً. أمر محتم. أحلامي لا تكذب. حلمت نفس الحلم يوم نجوت من حرب القوقاز، ونفسه يوم انكسر جيشي في ليبيا، ونفس الحلم في العام 1941 حين هربت من الانقلابيين، ولكن هذه المرة شيء مختلف، هنالك المرآة التي تهشمت وأدمت لي وجهي.

حين عدت إلى النوم لم أكن مرتاحاً، لقد نمت نوماً مضطرباً، أحلام غريبة وأصوات تأتيني كلها تنذر أن صباح يومي في الرابع عشر من تموز هذا سيكون صباحاً مختلفاً.

وفي أول طلوع الشمس، بعد أن طرقت أشعتها الذهبية الواهنة نافذتي، وعلى زقزقات العصافير المتجمعة على عريشة العنب في الطارمة سمعت صوت الخبازة تتكلم مع السائق عن تحركات عسكرية في الشوارع. فهرعت مباشرة إلى المذياع ما أن فتحته حتى سمعت أغنية مصرية طالما تذيعها إذاعة صوت العرب التي كرسها عبد الناصر لمهاجمتي، « أخي جاوز الظالمون المدى»، فأدركت مباشرة أن حركة عسكرية وانقلاباً سياسياً في البلاد قد حدث. لم أتأخر أبداً في حمل مسدسي ووضعه في جيب البيجاما التي كنت أرتديها، تناولت بعض النقود من الكومدينو وحشوت بها جيبي الآخر. أدركت لحظتها ألا وقت لي لارتداء ملابس أخرى، تناولت الروب من على الكرسي القريب من سريري وارتديته بهدوء، نعم بهدوء، وربما تستغربون من أين يأتيني هذا الهدوء وفي هذه اللحظة بالذات؟ في هذه اللحظات يضطرب الرجال، وترتعش قلوبهم، إلا إني على العكس من ذلك عند الخطر يغمرني هذا الشعور الهادئ المفعم باليقظة والحذر، إنه يسمح لي بمراقبة كل حركة محيطة بي، كل نأمة، كل سلوك. يستيقظ عقلي لاتخاذ الخطوة الصحيحة الملائمة، هذا الشعور هو الذي أنقذ حياتي عشرات المرات من الموت، هذا الشيء يجعلني أحلل كل المعطيات المحيطة بي ثم اتخذ الخطوة الأكيدة اللازمة.

بعد خطوات من مسيرتي نحو الباب، سمعت إطلاق رشقة من الرصاص متجهة نحو المنزل. إحدى هذه الرصاصات أصابت الببغاء وقتلته في الحال. دمه الأحمر القاني أخذ يقطر من ريشه الأخضر، بيبي لن يقول لي بعد الآن تصبح على خير يا باشا، رأيته وقد تدلى رأسه في القفص، أما الرصاصات الأخريات فقد اخترقن بعض النافذة واستقرّ البعض منها في الواجهة الرخامية.

أنا متأكد من أن الانقلابيين سيبعثون زمرة للمنزل من أجل قتلي، أنا متأكد من ذلك تماماً، وهم يعرفون لو نجوت أنا فإنهم لن ينجوا بانقلابهم! إذن عليّ أن أبقى في الحياة كي أعود لهم، وهم يعرفون ذلك، هم يعرفون أن أعمدة الحكم في هذه البلاد ثلاث: الملك والوصي، وأنا. لن يهتموا بالشخصين الأولين، أعرف ذلك. إنما سينشغلون بي، لأنهم يعرفون، لو نجوت أنا لن يطيح العرش في هذه البلاد، وأقسم على ذلك.

إذن ابق هنا يا لاسي فأنا عائد إليك. لا تخش شيئاً، وعدتك مرةً قبل هذه المرة وعدت لك. انتظرني هنا واهدأ مثلي. لن يجدوك في هذا المكان.

أدخلت الكلب لاسي إلى الحجرة التي أتناول فيها الكعك والشاي يومياً، لكي أحميه من رصاصهم ومن غدرهم. لاسي أصبح عجوزاً مثلي، لم يعد يقاتل كما كان، ولكني أعطيته القوة من هدوئي ورباطة جأشي. «نحن لم نكبر بعد يا لاسي!»، هل أصبح كل شيء مختلفاً حقًا؟ ليس كل شيء يمكن أن يتغير على الرغم من ذلك؟ أعني، يجب أن تكون هناك بعض الأشياء التي تبقى كما هي.

لم تمر الكثير من اللحظات، وعلى الرغم من أن هذا الوقت طويل جداً بالنسبة للاسي ولي، ولكني شعرت لحظتها أنه سباق على الزمن بيني وبينهم وعليّ أن أهزم الوقت.

أعني، عليّ أن أحسب الوقت جيداً على ساعتي، كم سيستغرق دخولهم المنزل وخروجي أنا من الباب الخلفي.

إنه الزمن الذي أعرفه جيداً وأقدره، فقد أمضيت وقتاً طويلاً في حكم هذا البلد، صارعت وفزت، وتمكنت من القضاء على جميع خصومي ومنافسيّ. لست رقماً سهلاً، لقد أمضيت زمناً ليس قصيراً ولا مسالماً وأنا أتربع على كرسي الحكم. لقد أصبحت رئيساً للوزراء 14 مرة، وها أنا اليوم رئيس لحكومة الاتحاد الهاشمي، وبسطت سلطتي على بلد عرف باضطرابه وصعوبته، لذا وقبل الخروج يمكنني، بل من الأفضل أن ألقي نظرة على الكرسي المصنوع من المخمل الأسود والفضي المطروح بشكله الغامض خلف مكتبي.

في مكتبي

في هذا المكان كنت استقبل زائري من السياسيين والعسكريين حيث يجلسون أمامي ويتراءى لهم من خلفي، عبر النوافذ الإنكليزية الكبيرة والتي تؤدي إلى الشرفة، نهر دجلة الذي يجري. النهر الذي يهدر منذ آلاف السنين بحركته الخالدة الأبدية. كنت تقصدت أن أجلسهم هكذا وهم ينظرون إلى اندفاعاته القوية القاسية وهو يصارع ويندفع بقوة، ليعرفوا حقيقة كل الأساطير التي تحيط بي.

لقد أحببت السلطة، أمر أقرّ به دون شك، ومنذ تدريبي العسكري في مدرسة القتال في إسطنبول، في فترة الشباب التي أتباهى بها كثيرًا، الفترة المبهمة والعديمة الشكل عند كل إنسان. وربما هي الفترة الهاربة والهشة في حياة كل سياسيّ، لكنها منحتني عدداً من الاستثناءات الرائعة، والتي جعلتني أشعر بأني الأنقى بين كل السياسيين الذين عرفتهم، عرفت من هو منهم الجيد ومن منهم الرديء. ربما كنت غير منصف في بعض أحكامي، ولكن داخلي لم يكن سيئاً، وأوافق دون خجل بجهلي بهذا العالم والذي ظننت أنني أعرفه، لكنني لم أعرف أي نوع من الطموح التافه والجشع كما يعرفونه.

هل يجب أن أعترف بذلك؟ في حياتي السياسية تنازلت عن جميع الملذات التافهة، وكرست نفسي إلى جوّ المكان الذي تتم فيه صناعة شؤون العالم، إلى مطبخ السلطة واتخاذ القرارات الصعبة. لقد تنازلت للخدم عن ملذّات الشراب والنساء وغطّيت نفسي بالمجد. مع أني لم أكن أحلم أن أكون الرجل الشعبي العظيم الذي يستقرّ الشعب عند قدميه، ذلك الذي يفرح أن تكون حفنة من الجهلة وقد صعدت في داخلهم العواطف الفورية ليقبّلوا يديه بعد أن بلّلوا رسغه بالدموع. بدا لي هؤلاء يتنفسون غبار العواطف ويعدّونها مجداً. نعم إنها من غبار العواطف وليست من المشاعر الصادقة، أبداً. لقد بدا لي عبد الناصر وأقولها صدقاً كنوع من السلبية السياسية وشكل منخفض من السلطة. لقد كانت شهيته للرعاع كتنازل حقيقي عن السياسة...وتنازل عن الأمور العظيمة التي تطلبها الأمّة من مواطنيها، مثل القوّة والشجاعة. هؤلاء يريدون أن تعبدهم الجماهير بمذلة وأن يتحول الشعب إلى محبين جبناء أمام حاكميهم، كي يشعروا هم بالمجد...لم أطلب هذه المشاعر مطلقاً لأنها تمحو الشجاعة من قلوب الرجال وتمنعهم عن القتال وتجعلهم أشبه بدمى محشوة بالتبن لا أكثر..

فصل من رواية « الزعيم « للروائي غلي بدر والتي ستصدر قريبا عن دار المدى

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top