TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: من حقيبة السفر

قناطر: من حقيبة السفر

نشر في: 16 أغسطس, 2022: 10:48 م

 طالب عبد العزيز

المصادفة وحدها قادتنا، نحن الثلاثة، الى فندق جيهان كردي، بمدينة لاهيجان، التي تقع بين الجبال، في شمال غرب القارة الايرانية. كنت قد أتيته وأقمت فيه، قبل اربعة أعوام، صحبة صديقين، ومن مدخله الجميل الى إدارته أخذنا صاحبُه بابتسامته التي تذكرتها الى المبنى المنفرد والملحق بالفندق، وسط الحديقة،

التي لم تعلُ اشجارُها كثيراً، ولم يمح من قرميد بيتنا الصغير إلا القليل. عند الممشى الرطب أشار إلى أنْ هذه دارتكم، وفي مثل خيط من حلم شفيف تنبهت الى أنني كنت هنا ذات يوم، وكمن يتحسس أصابعه عقب خدر خفيف، أعدتُ عليَّ قراءة القصيدة التي كتبتها هنا:

(لا أحدَ في “لاهيجانَ” يبيعُكَ العطرَ / همْ يعيبونَ عليكَ ذلك: إذا سألتهم / خلفَ كلِّ ذاهبةٍ للسوق شجرةُ ليمونٍ مزهرةٌ / وبقدّاحٍ كثير.. / وتحتَ كلِّ قميصِ صبيّةٍ في المدرسة غصنُ برتقالٍ / يميسُ، وبقدّاحٍ كثير.. / عنّدَ كلِّ متجّرٍ للُعَبِ الاطفال شجرةُ نارنجٍ / تنحني، مرحبةً بكَ، وبقدّاحٍ كثير.. / لاهيجانُ امرأةٌ، لا أحدَ يجرؤ/ يسألها عن عطرها الازلي).

نحن في العاشر من آب، كان (مرتضى) الفتى الفارسيُّ الاسمر، الذي حشرنا في بغلته البيجو، وجاء بنا من طهران بعد ظهر الخميس الماضي، قد أخذنا الى قرية صغيرة، خلف الجبال، اسمها (ماسولة) فيها شلال ماء، وسط غابة كثيفة، لم نبق فيها طويلاً، فقد اكتشفتُ بانني زرتها من قبل، لذا تعجلنا بمغادرتها الى أردبيل، ومنها أخذنا الى قرية جبلية أخرى اسمها (ماسال) التي لم يخلق مثلها في الخيال، فقد فاجأتنا غابة الجوز والمشمش فيها، وداهمنا المطر على طاولات مطعمها بعد أن أحاط بنا الضباب، ودونما دراية منا جاءنا صاحبه باسياخ اللحم حاراً، وبالارغفة مخبوزة ومرققة قلنا: هذا مجلس لا نحيط مباهجه إلا بفتح الزقِّ، زجاجة العرق المحلي، التي جاءنا بها الفتى الصادق، بطعم الفاكهة، كان السائق الذي جاء بنا قبل أربعة أعوام قد قال لعماد زينل بأن أهل لاهيجان أصدق سكان الجبال. هل قطَّرَ بائعه كما ينبغي؟ لكنه فعل فعلته،فدارت الرؤوس، حتى صرنا نرى الوادي العميق دارةً، وموقد بائع الذرة مدفئة، والفسحة تحت شجرة التين منامة فكان لنا كل ذلك.

تتيح البلاد الايرانية لنا نحن في العراق فرصة الهروب من مدننا الحارة، ومعاينة العالم بعين غير عراقية، ومع أنَّ الصورة النمطية عنها مشوهة في الذهن العربي، إلا أنَّ الوقائع لا تشير الى ذلك، فالبلاد الواسعة، المتقلبة في الجغرافيا، والمتباينة في تكوينها الاجتماعي توقفنا على حقيقة أخرى، حقيقة الشعب الحيّ، الذي ظلَّ يحتجُّ بمدنيته على نظامه السياسيّ، ويتذمر منه بحريته في العيش وانتقاء الاجمل. في مدن الشمال الايراني يستشعر السائح مفردات اللغة وهي تهمس بافواه النساء، هذا المدُّ المهموس الذي ينتهي به كل سؤال، وهذه العيون التي تستعلم دائماً كانها تبحث في المفردات عن مجهول أبديٍّ، حتى ليعتقد بعضنا بأن الطبيعة الجبلية تلقي باسئلتها على الناس، حيث يكون كل ما وراء الجبل مجهولاً وغامضاً.

كنت أشرتُ على صاحبيَّ المبيتَ في الوادي، في البيوت الصغيرة، التي أنشاها أصحابها لهذا الغرض، والتي ظلت تلوح ملونة وباردة من هناك، لكنهما آثرا العودة الى اردبيل، حيث سيكون الفندق أكثر أمناً، ففي الغابة المظلمة التي لا يتوقف المطر فيها لا يأمن السائح مداهمة وحوشها، قلت: وماذا عن الوحوش التي تتكالب على جسد بلادنا هناك؟ دعوني هنا.

في الليل، بعد الثانية من الفجر، تسللتُ خارج المنزل، الذي كان لنا في جانب الفندق، والمطل على البحيرة، فتحيط به، كانت المماشي رطبةً بمطر ما قبل منتصف الليل، والباب الى البحيرة مغلقة بقفل الحارس، أردت التطاول على سياجه، لكن المصابيح الزرق والحمر والبيض لألاءةً، ترصدني هناك، والبحيرة تفيض بالضوء. كانت المدينة ساكنة إلا من اثنين عاشقين، اتخذا من إحدى مصاطبها مجلساً، وظلا هناك، حتى خانت الشمس الحديقة والبحيرة معاً، وعاد الفجر على النائمين بالخبز البربري والقشطة والعسل وأقداح الشاي. في لاهيجان يرقق باعة الارغفة النهار، ولا يملُّ الانتظارَ سائقو المركبات، فهم تحت شلال الضوء والمطر حتى الصباح.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

نتائج اجتماعية سلبية محتملة لمقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959

العمودالثامن: لماذا تصمت نقابة المحامين؟

العمودالثامن: المندلاوي وشعار "مشيلي وامشيلك"

العمودالثامن: حين تغضب النقيبة !!

تشريع زواج القاصرات في العراق خيانة لهنَّ

العمودالثامن: عصر المرتشــين

 علي حسين كانت كلمة (مرتشي) حين تقترن بشخص ما فهي كافية لتضعه أسفل سلم التوصيف الأخلاقي في المجتمع، ويذكر البعض منا أن الاختلاس أو سرقة المال العام كان يلقى ردعاً يصل لحد الفصل...
علي حسين

كلاكيت: الكوميديا التي لا تنشغل فقط بالضحك..

 علاء المفرجي على الرغم من أن الفنان الكبير قاسم الملاك، لم يبدأ مسيرته الفنية أواخر الستينيات ممثلاً كوميدياً، بل تنوعت أدواره منذ ذلك الحين بين الكوميديا والأدوار التراجيدية، وغيرها من الأدوار. فكان أن...
علاء المفرجي

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوبفي مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 6)التجربة اليابانيةاليابان، المعروفة بتنظيمها الاجتماعي وثقافتها الغنية، تعد واحدة من اكبر الاقتصادات في العالم. بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت اليابان نهضة اقتصادية هائلة، حيث تحولت من بلد مدمر الى قوة اقتصادية...
د. محمد الربيعي

مقالة إخوان الصَّفا: القائل والعاقل

رشيد الخيون تضاعفت الأقوال المسموعة على مدار الساعة، والقلة ممَن يخضعها لعقله، كي يميز الغث مِن السَّمين، وبقدر ما نفعت التكنولوجيا، الفكر النير، خدمت الجهل، لأنها تُدار بيد الإنسان، إذا كانت يد عاقل أو...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram