مرساة: كسرُ عَظْم

حيدر المحسن 2022/08/16 10:54:51 م

مرساة: كسرُ عَظْم

 حيدر المحسن

الفرق بين البداوة والحضارة هو طريقة الاحتكام إلى الرأي عند الاختلاف في القسمة في المال والزّرع. إذا تخاصم اثنان في المدينة كان القانون هو الحكم، والقوانين هي مجموعةُ شرائعَ وتعليماتٍ ودساتيرَ أسّست لها عقول درست علوم المنطق والرياضيات والفلك،

واستمعت للغناء وكان أن صار لها ذائقة في الطّعام والمأكل والملبس، ورقّت بذلك ما تمتلك من مشاعر وأحاسيس وخيالات، وصارت ما ندعوه الآن إنسانا، أي بشرا سويا. ويأتي الحكم بين الخصوم في المدينة عادلا أو مُجلببا بستار العدالة لأنّ كلّ ما تحقّق من إنجازات في مجال الحضارة سوف يهتزّ ويتضعضع إذا كان الحكم منطوقا من قبل حاكم ظالم. إنّ نظريّة جناح الفراشة تصحّ في علم الاجتماع مثلما في الطّبيعة، فلو أن قرارا باطلا صدر من محكمة نائية في الريف، فإن مدّه سوف يبلغ حتما أروقة الدولة العُليا، وربما حرّف قرارات خطيرة يتّخذها رئيس الدولة تخصّ مستقبل البلاد والعباد.

في الديار المتبربرة يلجأ الإنسان في حالة الخصام إلى قبيلته وعشيرته وأهله، وفي هذه البيئات تتغلّب الغرائز على الأذهان وتتوقف العقول تبعا لذلك. الشّخص المختلف عنك في اللغة أو اللون أو الدين هو عدوّك أولا وأخيرا وإلى يوم القيامة، ويُدعى هذا السلوك بكسر عظم، صراعٌ وقتال بين اثنين يختلفان في الرأي لا ينتهي حتى يُفني أحدهما الآخرَ. إن الحوار مع الآخر يماثل الحوار مع الذات، وغياب هذا يعني قطع انتباهنا، مثل السكارى، إلى ما نقوم به من غريب الفعل والقول.

لا توجد حضارة دون مدنيّة، ويمكن أن تؤسّس مدينة دون إنجاز حضاري واحد، ومثال على ذلك المدن الحديثة في بلدان الشّرق المتأخر. تُحكم أغلب هذه الديار بمنطق البداوة رغم أنها تستعمل وتعيش وتجرّب آخر صيحات الحضارة في الملبس والسّرج والمأكل. إذا تناقش القوم عندنا واختلفوا في الرأي فإن الودّ يكون هو الضحية أولا، خلافا للرأي القائل إن الخلاف في الاعتقاد لا يفسد العشرة والملح والزاد. وهكذا نرى ديارنا تبتعد عن الركب حتى لم تعد تراه. يجلس رجلان في المقهى، يتحاوران، فإذا لم يعجب أحدَهما رأيُ جليسه سفّهه أولا، ثم سخر منه، والخطوة الثالثة هي قلب المائدة فوق رأسه. تهاجم الضّباع فحل الجاموس لأنها جائعة، وإذا أعطيت فكر إنساننا فهي تلاحقه لأنها تراه مختلفا عنها في الشّكل واللّون والهيئة. ويحدث هذا في عالم الأدب كثيرا، فكم من قصيدة وقصّة أدّت بصاحبها في البلدان المتأخّرة إلى السّجن، وربما التّعذيب والقتل. أكثر مكان وزمان صودرتْ فيه حريّة الرأي والاختيار والإبداع الفني هو روسيا السوفيتية. للشاعر «أوسيب ماندلشتام» قول شهير في هذا الشأن: «في روسيا فقط، يُحترم الشعر. إنه يجعل النّاس يُقتلون”. صدقت نبوءة الشاعر، فلم يمضِ وقت طويل على هذا التصريح، وكان قاله أمام أحد الأصدقاء الوشاة، وحُكِم عليه بالخيانة، وسيق إلى معسكر للعمل في أقصى الشرق الروسي، وهناك لقيَ حتفه.

يمكننا رسم صورة واضحة للاثنين، البداوة والحضارة، من خلال قراءة الجملة الاستهلاليّة في رواية “قصّة مدينتين” لتشارلز ديكنز، حيث يبدو الوجود مثل رقعة شطرنج، تهنأ فيه الشعوب المتحضّرة بالعيش في رغد الأبيض، وتُبتلى أقوام البرابرة بقتامة الأسود: “كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان، كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود، كان موسم النور، وكان موسم الظلمة، كان ربيع الأمل، وكان شتاء اليأس، كان أمامنا كلّ شيء، ولم يكن أمامنا شيء، كنا جميعا ماضين إلى الجنة مباشرة، وكنا جميعا ماضين إلى جهنم مباشرة». إن الأفضل لهم، أي للشعوب المتحضّرة، والأسوأ لنا، وقِسْ على ذلك الإيمان والجحود، والضياء والظلام، والأمل واليأس، والأخير هو الأقسى في مصائر الأمم، وأكثرها رُعبا، فبِهِ تصير الحياة مثل عيش المحكومين بالسجن مدى الحياة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top