اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > الرأي > قناديل: مغبونٌ من ينظر للعالم بعينين مطفأتيْن

قناديل: مغبونٌ من ينظر للعالم بعينين مطفأتيْن

نشر في: 27 أغسطس, 2022: 10:41 م

 لطفية الدليمي

لاأظنُّ أنّ أغلبنا سمع بإسم (نغوغي واثيونغو) قبل أن تظهر ترجمة روايته (حبّة قمح) عن دار المأمون العراقية منتصف ثمانينات القرن الماضي. لم نكن معتادين حينها على الأسماء الأفريقية الثقيلة على مسامعنا. ربما كان تشينوا أتشيبي و وول سوينكا هما الاستثناءان الوحيدان.

عاش واثيونغو حياة بائسة لاتنبئ بما سيكون عليه مستقبله، وقد حكى الرجل في سلسلة من الكتب عن مذكراته في الطفولة والشباب وكيف إنتهى به الحال من مُعْتَقَل سياسي إلى أستاذ للغة الإنكليزية وآدابها في أعرق الجامعات الأمريكية (ييل، نيويورك، كاليفورنيا). بالاضافة إلى مذكراته ورواياته كتب واثيونغو كثيراً في ميدان السياسات الثقافية، ومن كتبه في هذا الميدان (تصفية إستعمار العقل) الذي ترجمه الراحل سعدي يوسف إلى العربية، وكذلك كتاب (زحزحة المركز) الذي لم يترجم بعدُ. يكادُ المرء يشعرُ عقب قراءة هذه الأعمال أنّ واثيونغو يرى في الأدب– واللغة على وجه التحديد – موضوعاً سياسياً في المقام الأوّل؛ لذا نراه يغالي في تطرفه اللغوي حدّ أنه صار يكتب بلغة غيكويو Gikuyu المحلية الافريقية؛ بل وراح يدعو مواطنيه الافارقة للكتابة بها ونبذ الانكليزية تماماً.

تُذكّرنا راديكالية واثيونغو اللغوية بما حصل في تاريخنا السياسي، فضلاً عن أنها تنطوي على مفارقة. لنبدأ بالمفارقة أولاً. هل كان واثيونغو سيرتقي إلى ماارتقى إليه لو أنه لم ينلْ تعليماً جامعياً راقياً باللغة الانكليزية؟ هل يطالبُ بحرمان أهل بلده من أن يشقوا طريقهم نحو الجامعات العالمية والاكتفاء بحصيلتهم اللغوية المحلية؟ ماسَقْفُ توقعاتهم المستقبلية لو ظلّوا يتحدثون بلغة الغيكويو ويكتبون بها؟

الحديث عن الانكليزية باعتبارها بضاعة استعمارية يريد الآخر (المُستعمِر) تسويقها في بلاد الآخرين كلامٌ فاسد. شاعت مثل هذه الرؤى المتطرفة في بلادنا أيام تعالى صوت الراديكالية القومية التي أضاعت علينا الكثير من الفرص الواعدة. القومية بذاتها يمكن أن تكون نسقاً ثقافياً منتجاً مثلما كان الحال في ألمانيا وفرنسا وسائر بلدان أوربا؛ لكن بعضنا أرادها قومية متحصنة في صندوق مقفل، تنظر للآخرين بتوفّز وعدوانية وتتوقع الشر من الجميع وفي كلّ آن.

ثمّة سببان في الأقلّ يقوّضان رؤية واثيونغو ومتطرّفي القومية العربية. الأوّل يكمنُ في أنّ كلّ ثقافة منعزلة ستذوي مع الزمن ولن يكون بمقدورها التأثر والتأثير في الثقافات الأخرى. هذا قانون ثقافي مثلما هو قانون بيولوجي. العزلة مقتلة الثقافة ودفنٌ للغة في مدفن مهجور. أما السبب الثاني فبراغماتي محضٌ: الانكليزية هي لغة العالم في قطاعات العلم والمال والاقتصاد والسياسة والطب ووووو؛ فهل تريدُ مقاطعة هذه اللغة تحت ذريعة النقاء اللغوي والحفاظ على الموروث المحلي من الاندثار والضياع؟

يحضرني في هذا المقام اللغة العربية التي كان ينطق بها بعضُ الروس الذين دبلجوا أفلام الكارتون الروسية في حقبة الاتحاد السوفييتي. كم كانت لغتهم جميلة مموسقة وخالية من الأخطاء النحوية!! لايختلف المستشرقون الروس عن مدبلجي الأفلام في هذا الشأن. كلّ أعاظم المستشرقين العالميين من روس وألمان وسواهم كانوا يتحدثون لغة عربية متينة ومبهرة الجمال تفوّقوا فيها كثيراً على أغلب ناطقي العربية في ديارها. لم يرَ الروس والألمان والفرنسيون وسائر المستشرقين في العربية لغة تقوّض لغاتهم؛ بل رأوها لغة تخدم منهجهم الاستشراقي.

سيكون من المفيد دوماً مقارنة حالنا مع الهند. كان العراق مثل الهند تحت السيطرة الكولونيالية البريطانية؛ لكنّ الهند تعاملت مع البريطانيين بمنطق براغماتي بعيد عن الشعاراتية الفضفاضة التي لاتشبعُ جائعاً. صارت اللغة الانكليزية هي اللغة الرسمية السائدة في الهند، وترتّب على ذلك إنصهار القوميات الهندية المتعددة في أتون وحدة لغوية مقبولة لاتعلي شأن قومية على أخرى. ماذا كانت النتيجة؟ صار الهندي يتقنُ الانكليزية إلى حدود مقبولة عالمياً؛ بل صار مفهوم (الانكليزية الهندية) المقترنة بلكنة محببة وهزّة مميّزة في الرقبة ماركة مسجّلة بإسم الهنود الذين إختزلوا كثيراً من الجهد والزمن في إختراق أرقى المؤسسات الطبية والعلمية والتقنية العالمية، وهاهم اليوم يتسيّدون قطاعات كبرى في (وادي السليكون) وأعاظم الشركات التقنية على مستوى العالم. الأمر ذاته حصل مع سنغافورة أيام كانت فقيرة مهملة في قاع القارة الآسيوية؛ وهاهي اليوم تحوز المرتبة الأولى في الدخل الفردي العالمي. أما كينيا التي تعلّم فيها واثيونغو الانكليزية في صباه وشبابه،فلا مكان لها اليوم على الخريطة العالمية بالقياس مع الهند وسنغافورة، ثم يطلب واثيونغو أن يكتب أبناؤها بلغتهم المحلية وينبذوا الانكليزية. هل يريد لهم أن يصبحوا أكثر هامشية عمّا هم عليه؟

لو تتبّعنا مدى إتقان الساسة العراقيين للإنكليزية سنكتشفُ بسهولة كيف حصل الانحدار الثقافي والعلمي في العراق. ثمّة تسجيلٌ يظهرُ فيه الراحل محمد فاضل الجمالي - الذي عمل في سلك التعليم ثم كوزير خارجية ورئيس وزراء للعراق – وهو يتحدّث بلغة إنكليزية أنيقة سلسة في واحدة من إجتماعات الأمم المتحدة. كان الجمالي عروبياً ذا رؤية إسلامية حضارية متفتحة، ولم تكن لغته شبيهة بتلك اللغة الحلزونية المستغلقة لبعض غلاة الاسلاميين والعروبيين الذين جعلوا اللغة العربية لغة متحفية منفّرة. لاتجرّبوا سماع إنكليزية قادة العراق ممن اعقبوا الجمالي ؛ فقد تدرّجت من إنكليزية مشوهة إلى غياب تام لها.

من يخافُ على لغته من غزو لغوي افتراضي هو كمن يخافُ أن يطلق أولاده ليعيشوا في خضمّ العالم، يريدهم أن يجلسوا قبالته وحسب. من إعتاد الاتقان في عمله سيتقنُ كلّ شيء. من يتقنُ الانكليزية سيتقنُ العربية وسواها من اللغات -لو شاء ذلك-. دققوا في جمال العربية التي كتب بها أكابر المترجمين العرب وأعاظم من أتقنوا الانكليزية وكتبوا بها (جبرا إبراهيم جبرا مثالاً واحداً فحسب)، ثمّ قارنوا هذا مع اللغة العربية الهزيلة التي يكتب بها السواد الأعظم من العراقيين (ومنهم ساسة غارقون في أصوليتهم الدينية والآيديولوجية)، وستكتشفون أنّنا أضعنا العربية والانكليزية معاً، ومعها أضعنا فرصاً لاتعوّضُ في التنمية على كلّ المستويات.

كلّ لغة إضافية نتعلّمها هي عينٌ إضافية نرى بها العالم من منظور جديد. سعيدٌ كلّ من أتيحت له القدرة على رؤية العالم بعيون كثيرة، وفي المقابل مغبونٌ تعسٌ كلّ من إكتفى برؤية العالم بعينين مطفأتيْن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل

العمودالثامن: متى يُقدم سراق أموال الكهرباء للمحاكمة ؟

 علي حسين بشرنا وزير الصناعة خالد بتال أن مشكلة الكهرباء في البلاد لن تحل " حتى بعد ألف سنة" ، وأن ما صرف من أموال كانت تكفي لبناء مدن جديدة تتسع لملايين العراقيين...
علي حسين

كلاكيت: وفاة نورمان جويسون.. الأكثر ترشيحا للأوسكار

 علاء المفرجي غيب الموت فبل مدة المخرج الكندي نورمان جويسون عن عمر يناهز 90 عاماً، صاحب المسيرة الزاخرة بالأعمال الهوليوودية؛ أبرزها (في حمى الليل) و"جيزس كرايست سوبرستار" (يسوع المسيح نجما).وانطلقت مسيرة جويسون في...
علاء المفرجي

قناطر: عن الموسيقى وهاندكه وابن خال ابي

طالب عبد العزيز ربما بسبب الفوضى التي أحبّني فيها أحياناً، أجدني أمْيلَ لسماع ومشاهدة ولقراءة غير ممنهجة، فقد أقرأ مثلاً في عشرة كتب مرة واحدة، أفتح هذا، واغلق ذاك، ثم اعود لورقة كنت قد...
اسم المحرر

كلام غير عادي: رائد مهدي الشِفِي

 حيدر المحسن هو ابن خالتي، نشأنا معاً في مدينتنا البعيدة عنّا نحن الاثنين، العمارة، والذكرى التي ما زلتُ احتفظ بها تعود إلى السبعينات. كنّا نلعب كرة القدم في حيّنا، بستان عائشة، وغشّ الفريق...
حيدر المحسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram