هل يمكن إنقاذ الثقافة العربية؟

آراء وأفكار 2022/09/25 11:22:05 م

هل يمكن إنقاذ الثقافة العربية؟

هاشم صالح

سوف يقولون: يا أخي هذا الشخص بلغ به الغرور مبلغه. يا أخي هذا الشخص لا يحتمل ولا يطاق. يا أخي هذا الشخص مصاب بجنون العظمة لا أكثر ولا أقل. والأنكى من ذلك أن حالته أصبحت متفاقمة، مستفحلة لا نفع فيها ولا علاج.. هل الثقافة العربية في خطر لكي ننقذها؟ ما هذا الهراء؟ وجوابي على النحو التالي: نعم إن الثقافة العربية في خطر لأن اللغة العربية ذاتها في خطر. وبمناسبة اليوم العالمي للاحتفال بها في 18 كانون الأول/ديسمبر فسوف أنتهز الفرصة لكي أقول ما يلي:

إن مصدر الخطر ليس آتيًا من جهة أعدائها بقدر ما هو آت من جهة أصدقائها وأتباعها. ومن الحب ما قتل! ومن الحب ما خنق! فكوا القيود عن عنق هذه اللغة التاريخية والقدسية العظيمة. خفّفوا عنها الأسر. بالعربي الفصيح: حلوا عنها! اتركوها تتنفس بشكل طبيعي. اتركوها تنفتح على كل الاحتمالات اللغوية والإمكانات التعبيرية. سهّلوا قواعد نحوها وصرفها وكتابتها وإملائها. اتركوها تقترب من اللهجات العامة المشتركة دون أن تذوب فيها. ينبغي أن تظل مفهومة من قبل جميع أقطار العرب لأنها القاسم المشترك الأعظم بين العرب. إنها كنزهم الوحيد. من دون لغة عربية لا أمة عربية ولا من يحزنون. أتركوها تتغذّى من خيرة ما تعطيه لغة الحياة اليومية. اتركوها تتغذى بآلاف المصطلحات والاشتقاقات وتضيف كل يوم مفردات جديدة إلى قاموسها. اتركوها تتحول إلى لغة وسطى: لا عامية ولا فصحى كما يقول جاك بيرك. أقصد لا فصحى متقعرة أصبحت تثير الضحك والسخرية والاستهزاء. وإلا فإنها ستجف وتموت. هل تريدون أن يحصل لها نفس مصير اللغة اللاتينية في الغرب. ومعلوم أنها كانت اللغة الفصحى المستخدمة من قبل كل علماء أوروبا حتى القرن السابع عشر. وكانت الفرنسية والإنكليزية والألمانية وسواها تعتبر لغات عامية أو لهجات محلية لا تليق بالثقافة والمثقفين. ثم حلت محلها وتحولت إلى لغات قومية محترمة لا تزال سائدة حتى الآن. وزالت اللغة اللاتينية أو انقرضت من الوجود. وبالتالي فهل تريدون أن تحل اللهجة السورية أو المصرية أو الخليجية أو المغاربية محلها؟ هل تريدون أن تنقرض اللغة العربية المستمرة منذ امرئ القيس وحتى اليوم مرورًا بلغة العصر الأموي والعباسي والأندلسي وكل كنوز العصر الذهبي؟ هل تريدون أن تنقرض لغة القرآن الكريم؟ معاذ الله!
من الأصولية الدينية إلى الأصولية اللغوية
لكي تتحاشوا ذلك افتحوا مراكز قومية للتعريب في مشرق العالم العربي ومغربه. ووظفوا فيها مئات الباحثين المترجمين الأشداء. اتركوهم يشتغلون بحرية ويبدعون ويتنفسون. ذلك أن الترجمة فعل إبداع، وأي إبداع! جميع العلوم الحديثة من فيزيائية/ وإنسانية ينبغي أن تنقل إلى اللغة العربية بكل نظرياتها ومفاهيمها وأطروحاتها بأسرع وقت ممكن. وإلا فإن الثقافة العربية مهددة. كل يوم ينبغي أن نشتق أو نخترع عشرات المصطلحات العلمية والفلسفية وإلا فإن لغة الضاد سوف تضمر أيها السادة. سوف تضمحل تدريجيًا حتى تنقرض وتموت. هل هذا ما تريدون؟ هناك لغات كثيرة انقرضت في العالم لأنها لم تعرف كيف تساير حركة التطور والتجدد التي هي سنة الله في هذا الكون. ثم لا تنفكّون تتشدقون بحبكم للغة العربية على مدار الساعة دون أن تفعلوا شيئًا لإغاثتها وتطويرها. فماذا سيتبقى لكم إذا ما انقرضت وماتت؟ سوف تموتون أيضًا معها.لا معنى لأمة عربية من دون لغة عربية. نقطة على السطر. والله تحسدنا أمم العالم قاطبة لأنه تجمع بيننا هذه اللغة العظيمة التي يبلى الزمن ولا تبلى. ولكن عندما أراهم يتقعّرون أكثر فأكثر في كتابة هذه اللغة بدلًا من التسهيل والتيسير والتبسيط يكاد يجن جنوني. أكاد أضع يدي على قلبي خوفًا وذعرًا وأقول: هؤلاء الناس سوف يقتلونها لا محالة.
هؤلاء المتقعّرون على طريقة الأصمعي سوف يجلبون أجلها. أقول ذلك مع احترامي الكامل وإجلالي للأصمعي. أرجوكم احتفظوا بهذا المصطلح الشديد الأهمية: مصطلح التقعر والمتقعرين. وربما أضفتم إليه مصطلح التكلس والمتكلسين. ولا مانع من إضافة مصطلح التحنط والمتحنطين. وماذا عن التوابيت والقبور؟ هذه الديناصورات المنقرضة سوف تقتلنا قبل أن تموت. سوف تضعنا في التوابيت ونحن أحياء. هذا الحقد على التطور والتغير أصبح يقلقني ويقض مضجعي. العرب مهدّدون، أيها السادة، من قبل أصوليتين لا أصولية واحدة: الأولى أصولية دينية، والثانية أصولية لغوية. الأولى معروفة جيدًا وتشغل المثقفين العرب من مشرقهم إلى مغربهم. ولكن الثانية غير معروفة على الإطلاق ولا أحد يتحدث عنها. الأولى تجمّدهم فكريا والثانية تحنطهم لغويًا. وفي كلتا الحالتين نخرج من التاريخ. أللهم قد بلغت!
صحيح أنه يحق لنا أن نشعر بالفخر والاعتزاز لأن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد أصدرت قرارًا تاريخيًا في كانون الأول/ ديسمبر من عام 1973 يقضي باعتماد لغة الضاد ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. فذلك يعني رفعها إلى مرتبة الإنكليزية والفرنسية! والله هذا أجمل وأسعد يوم في حياتي. ولكن هذا الحدث التاريخي لا ينبغي أن يخدرنا أو يجعلنا ننام متواكلين، متكاسلين. وإنما ينبغي أن يشحننا بالقوة والحماسة لتطوير لغتنا بكل الوسائل الممكنة.
كل النهضات الكبرى قامت على أكتاف الترجمات الكبرى
لكن بعد هذا التحذير والتقريع دعونا ندخل في التفاصيل. ما هي الطريقة الملموسة والمحسوسة لإنقاذ اللغة العربية وتاليًا الثقافة العربية؟ بصراحة لا أراها إلا في طريقتين اثنتين: الأولى نقل النظريات العلمية والفيزيائية والكيميائية والفلكية والبيولوجية والطبية إليها. والثانية نقل العلوم الإنسانية والفلسفية. هناك شيء يدعى الآن في اللغات العالمية الحية كالفرنسية والإنكليزية: بالرواية الكبرى للعالم. أو “ملحمة العالم الكبرى”. كيف تشكل الكون قبل 14 مليار سنة تقريبًا؟ كيف حصل ذلك الانفجار الهائل الذي أدى إلى ولادة العالم بكل مجراته وكواكبه وأفلاكه والذي يدعى “بالبيغ بانغ” في اللغة الإنكليزية؟ من اللاشيء، من نقطة صغيرة بحجم رأس الدبوس أو أقل، من نقطة صغيرة لا ترى بالعين المجردة، حصل الانفجار وأدى إلى تشكل هذا الكون الشاسع الواسع الذي لا يزال يتمدد ويتوسع حتى اللحظة! شيء لا يكاد يصدق. من اللامتناهي الصغر نتج اللامتناهي الكبر. من اللاشيء ولد كل شيء. كن فيكون! صدق الله العظيم. صدق القرآن الكريم. هذه الرواية الكونية أقوى من أكبر قصيدة عبقرية أو ملحمة شعرية في العالم. لا الالياذة ولا الأوديسة.لا دانتي ولا رسالة الغفران. لا ألف ليلة وليلة ولا دونكيشوت.لا شكسبير ولا دستيوفسكي. لا المتنبي ولا المعري. كل هذا لا شيء قياسًا إلى تلك الملحمة الكبرى، ملحمة البيغ بانغ: أي ملحمة: كن فيكون. أقصد تلك الملحمة التي تروي لنا قصة تشكل الكون، والعوالم، والكواكب، والمجرات. ونحن في الكرة الأرضية أو حتى المجموعة الشمسية لسنا إلا قطرة صغيرة في بحر المجرات اللانهائية... عندما شرح لنا أحد الاختصاصيين هذه القصة في إحدى قاعات اليونيسكو بباريس ذهلنا، خرجنا عن طورنا، فقدنا عقولنا. باختصار شديد ينبغي أن ننقل النظريات العلمية الحديثة من فيزيائية وكيميائية وبيولوجية وفلكية إلى اللغة العربية. وبنقلنا لها سوف تتوسع اللغة العربية أضعافًا مضاعفة وسوف تغتني بالآلاف المؤلفة من المصطلحات والأفكار والمفاهيم والتراكيب اللغوية التي لم تخطر على البال.
فصل من كتاب العرب بين الأنوار والظلمات

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top