متابعة المدى
تمر هذه الأيام ذكرى رحيل الرائد المسرحي يوسف العاني (1927- 2016)، الذي نشأ في محلة بغدادية شعبية قديمة تعرف بـمحلة (سوق حمادة) تقع وسط بغداد، ويبدو أنه قد أخذ الكثير من أصول وركائز وأشكال كتاباته المسرحية من اجواء وملاذات محلته تلك. والعاني ليس فنانا حسب بل أسهم في ذاكرة جيل أشهر حبه للفن عند تخوم زمن كانت المجاهرة فيه لعنة، والعمل فيه خطيئة تستحق الرجم، فكيف اذا امتشق هذا الفن سيف التحريض والتغيير. قدم العديد من الأدوار في المسرح والسينما والتلفزيون، إضافة لتأليفه عددا من الاعمال المسرحية والتلفزيونية.
ولد في بغداد في عام 1927، تخرج في كلية الحقوق سنة 1944، وعمل بالمحاماة فور تخرجه، وعمل مدرسا معيدا في كلية التجارة والاقتصاد بعد تخرجه من جامعة بغداد عامي 1950-1951م، للإشراف على النشاط الفني في الكلية، أسس فرقة مسرح الفن الحديث مع الفنان الراحل إبراهيم جلال وعدد من الفنانين الشباب 1952، وكان اول مدير عام لمصلحة السينما والمسرح، التي سميت بعد ذلك بدائرة السينما والمسرح، عام 1960. وكان قبل ذلك قد تقلد مناصب رسمية بعد ثورة 14 تموز منها: ملحق صحفي في سفارة العراق بالرباط عام 1959. وكيل مديرية الإرشاد والصحافة العامة.
اعتاد يوسف العاني ان يقتطع من التقويم يوما بعينه، يوقد فيه شموع الاحتفال، والغريب انه ليس يوم ميلاده.. اما التاريخ فهو الرابع والعشرون من شباط.. ففي مثل هذا اليوم قبل اكثر من ستين عاما، اعتلى العاني خشبة المسرح اول مرة، مؤرخا ولادته الحقيقية، ولادة مسرح عراقي اكتسب ملامحه المميزة وخصوصيته وتقاليده مع رهط من المسرحيين لينهضوا به متبوئاً مكانته العربية والعالمية، وهل لمؤرخ او دارس لمسيرة هذا الفن ان يغفل بصمات هذا الفنان الذي نذر نفسه متعبداً في محرابه؟
فنان متعدد الاهتمامات، ذلك ان الفنان الحقيقي يسعى الى بلورة تصوراته بطرق عدة، فيكون شديد اليقظة مع وجود طاقة شديدة وحالة عالية من التوتر والاستثارة تدفعه الى المواصلة والاستمرار برغم العقبات.. مسرح، سينما، تلفزيون، كتابات نقدية يمارسها، وفي الافق هدف سام يأمل الامساك به من (سوق حمادة) في الكرخ ولم تنته إلا بوفاته عام 2016.
يوسف العاني عالم تنوعت تضاريسه، وويل لرحالة يجوب فيه لا يتزود بمتاع الموضوعية والانصاف كي يستكشف غناه وعمقه ليخرج بخريطة تزدحم فيها الخطوط والمنحنيات بين مسرح رأس الشليلة، والبيك والسايق والنخلة الباسقة التي يتلذذ من طعم رطبها الجيران، وسينما سعيد افندي وابو هيلة، ويوم يوسف شاهين السادس، مروراً بالتلفزيون حيث ثابت افندي ورائحة القهوة.. وكتابات تناثرت في زوايا الصحف والدوريات تؤكد عمق التجربة ونقاء الانطباع.
واخيراً سفيرا تأبط اوراق اعتماده جوالا فوق العادة في المؤتمرات والملتقيات، ومتوجا كرائد من رواد المسرح العربي والافريقي في قرطاج.. صداقات وعلاقات كانت جسر محبة مع ملل واجناس مختلفة.