كانت الحصة العالمية للديمقراطيات أعلى بكثير في عشرينيات القرن الماضي. في فترة ما بين الحربين العالميتين، كان هناك تدهور كبير في الديمقراطية، ثم في الستينيات، ومع إنهاء الاستعمار، شهدت الديمقراطية صعودا ؛ثم تراجعت مرة أخرى في السبعينيات، ثم بدأ انتعاشها الشديد منذ الثمانينيات.
وأعتقد أن الوضع الحالي مشابه، لكنه مختلف عن الفترات السابقة. فبعض الأشياء التي تسببت في صعود الديمقراطية وهبوطها في الماضي، مثل الحروب والأزمات الاقتصادية، نواجهها جميعًا الآن. وما يختلف هنا هوالتحديات الداخلية التي تواجه الديمقراطية والتحديات الخارجية التي نواجهها اليوم.
وتشمل التحديات الداخلية الانقلابات والتمردات الشعبية التي تقلقنا باعتبارها الطرق الرئيسية التي تسقط الديمقراطيات. اليوم، يبدو أن النمط مختلف، وأننا انتقلنا إلى نمط نتحدث فيه عن التراجع. فهناك انتخابات عادية في الديمقراطية، يفوز فيها الحزب والقيادة، لكنهم فجأة يبدأون في السيطرة على النظام السياسي وإجراء التغييرات، وتقويض حرية الصحافة، وإنهاء التجمعات العامة، لتقويض استقلال المحاكم و الهيئة التشريعية لتحويل الديمقراطية ببطء إلى نظام الحزب الواحد حيث تختفي الأحزاب الأخرى، أو تكون غير قادرة على بث برامجها للجمهور. ثم يتم تثبيت نظام الحزب الواحد هذا ويكون لدينا نوع من الديمقراطية، ديمقراطية انتخابية، حيث يكون تناوب الأحزاب، وهو جزء مهم من الديمقراطية، أمرًا صعبًا للغاية.
وهذه التحديات الداخلية، وهذا التراجع هو مصدر القلق الحقيقي، هذه الأيام، كما نرى في دول مثل المجر وتركيا وروسيا، اذ نخشى، خاصة عندما تصل أحزاب اليمين المتطرف إلى السلطة، من أنهم على الأرجح يعمدون الى لالتفاف على هذا النوع من السيناريو لمحاولة تقييد الديمقراطية، واحتوائها، وتقوية السلطة التنفيذية، والمضي قدمًا في نظام لا يتسامح مع الديمقراطية الحقيقية.
إذن هذه هي التحديات الداخلية، ويمثل النظام الخارجي أيضًا تحديًا. لذلك تميل الديمقراطيات إلى أن تكون أفضل حالًا في عالم توجد فيه ديمقراطيات أخرى، حيث تزدهر الديمقراطية. إنهم يميلون إلى القيام بعمل أفضل في عالم لا توجد فيه حروب، ويميلون إلى القيام بعمل أفضل في عالم يعمل فيه الاقتصاد العالمي بشكل جيد. الآن لدينا مشاكل على كل هذه الجبهات. فمن الواضح أن الحرب في أوكرانيا والصراعات في أماكن أخرى ليست جيدة للديمقراطية وتمارس ضغطًا حقيقيًا عليها. كما ان انتشار الاستبداد وإعادة بناء الحكم المطلق في أماكن مثل الصين، مرة أخرى، يطرح الكثير من التحديات للديمقراطيات القائمة.
إذن، على هذه الجبهات، هناك تحديات داخلية وخارجية. والنقطة الأخيرة التي أود أن أذكرها بشأن التحديات الخارجية هي أن لدينا مشاكل لا حصر لها عبر وطنية تواجهها جميع البلدان. تغير المناخ، والأوبئة، والجريمة العابرة للحدود، والأزمة الاقتصادية العالمية فكلها مشاكل صعبة للغاية بالنسبة لدولة واحدة لحلها. لذا يجب أن يتعاونوا مع بعضهم البعض.
هذه أيضًا أشياء تتطلب غالبًا الكثير من التغييرات الداخلية. وهذه الأنواع من القضايا العابرة للحدود، على ما أعتقد، تشكل مشكلة حقيقية للديمقراطية، لأن الناس يشعرون أن القضايا الكبيرة التي يواجهونها لم يتم حلها، وربما لا يمكن حلها بواسطة الديمقراطيات. وهذا مصدر قلق خطير.
اما بالنسبة للاستبداد فلا أعتقد انه المصير الطبيعي للديمقراطيات في عالم رأسمالي معولم، فحتى لولم تكن الرأسمالية متوافقة جدًا مع الاستبداد بشكل عام، فأن الحكام المستبدين غالبًا ما يخشون كثيرًا مما سيفعله الرأسماليون في الاقتصاد،اذ يمكن للرأسماليين وأصحاب الأعمال الكبيرة أن يصبحوا أقوياء للغاية من خلال توظيف العديد من الأشخاص، وتحقيق الكثير من الأرباح، مما سيكون له تأثير كبير على الاقتصادات في أجزاء مختلفة من البلاد. ويخشى المستبدون ذلك ويتخذون خطوات لزيادة تدخل الدولة في المجال الاقتصادي. وهذه الإجراءات بشكل عام ليست جيدة للرأسمالية والرأسماليين. وأعتقد أننا رأينا ذلك في عدد من السياقات مثل الصين وروسيا مؤخرًا، حيث تتدخل الحكومة بشكل متزايد لإصدار لوائح تمنع الرأسماليين من فعل ما يريدون، أو مصادرة الشركات من الرأسماليين وتسليمها إلى أصدقاء النظام الحاكم. كل هذا ليس جيدًا للرأسمالية أو للابتكار، وهو أمر آخر يخشاه المستبدون، لأنهم لا يعرفون من الذي سيستفيد. لذلك لا أعتقد أن الاستبداد متوافق للغاية مع الرأسمالية القوية بل يمكن أن يكون متوافقًا ومتوافقًا للغاية مع رأسمالية المحسوبية. لكنها ليست رأسمالية جيدة جدًا في النهاية.
تاريخيًا، كان أداء الديمقراطيات أفضل من الأنظمة الاستبدادية. لقد حافظوا على وعودهم. وتشير البيانات التي لدينا إلى أن الديمقراطيات لديها معدلات نمو أعلى من الأنظمة الاستبدادية في المتوسط، وأن الديمقراطيات تعمل بشكل أفضل لشعوبها من حيث الصحة والتعليم والرفاهية وجميع أنواع الأخلاق.فالديمقراطيات أكثر سلمية وأكثر انفتاحا. وهي تحل المشاكل بشكل أفضل. اما المشاكل العابرة للحدود الكبيرة، فهناك وسائل اخرى لحلها،إذ تحتاج إلى الكثير من الناس للتفكير في أفكار جديدة وطرحها. والطريقة للقيام بذلك هي الذكاء الجماعي، وهو جمع الكثير من الأشخاص المختلفين، وجمع أفكارهم، وانتقاداتهم، ودمج كل هذا لابتكار مسار جديد. ومع ذلك، يعمل الذكاء الجماعي في المجتمعات المفتوحة، في الديمقراطيات. بينما لاتفعل الأنظمة الاستبدادية ذلك بسبب هوس القادة بالحفاظ على مناصبهم. لذلك أعتقد أن الاستبداد في النهاية ليس المسار الطبيعي. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: "كيف ستتطور الديمقراطيات للتعامل مع المشاكل الجديدة التي تواجهها، للتعامل مع هذه المواقف والأفكار الاقتصادية والاجتماعية الجديدة؟ وما هي أنواع التغييرات التي ستتبناها الحكومات - وهل ينبغي عليها تبنيها، لتحسين الذكاء الجماعي الضروري لحل هذه المشاكل العابرة للحدود التي نواجهها؟
· استاذة السياسة والشؤون الدولية في جامعة برينستون
اترك تعليقك