TOP

جريدة المدى > عام > سامراء العمرانية: دراسة في عمارة المدينة العباسية وتخطيطها

سامراء العمرانية: دراسة في عمارة المدينة العباسية وتخطيطها

نشر في: 20 نوفمبر, 2022: 11:18 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

نصوص مستلة من الفصل الثاني لكتاب "سامراء العمرانية: دراسة في عمارة المدينة العباسية وتخطيطها، الذي اعمل في الوقت الحاضر على تأليفه ونشره لاحقاً.

".. وعلى العموم، فان حدث تخطيط سامراء، يجعلنا إزاء تجرية عمرانية فريدة من نوعها واستثنائية في وقائعها، إن كان ذلك في منجز العمارة الاسلامية على وجه الخصوص ام في منتج العمارة العالمية عموماً. فالمدينة التى تأسست عام 836 م.، وتم هجرها سريعا في عام 891 م. كانت لفترة على امتداد نصف قرن تقريبا من اهم حواضر الخلافة العباسية وعاصمة دولتها المترامية الاطراف، ما افضى الى وجود منشآت سكنية ودينية وإدارية وتجارية وثقافية متنوعة كان بعضها يتسم بلغة معمارية مميزة ولافتة. ويعد حدث التأسيس السريع والهجر العاجل اللذين انطوى عليهما <تاريخ> المدينة، بمثابة حدثاً فريداً وغير مسبوق في مجمل مسار الحضارة الانسانية. صحيح ان ثمة مدناً عديدةً نَهَضت من العدم، وربما بعضها هُجّر ايضاً، لكن طبيعة النموذج السامرائي وسرعته الخاطفة يجعل من واقعة التأسيس والهجر ذات وقع فريد واستثنائي في تاريخ التمدن العالمي. كما ان تبعات ذلك الهجر السريع وخلو المدينة من سكانها، افضي لتكون شواهد سامرَّاء التخطيطية والمعمارية محفوظة وسالمة نوعا ما؛ مثلما كانت بِمَنْأىً عن اية أمكانية لمحاولات تغيير خططها او إجراء اضافات على تصاميمها (كما يحدث، عادةً، في مجمل الشواهد التاريخية المعمارية بالمدن المأهولة)، وهو ما يضيف خصيصة مهمة وفريدة الى خصائص تلك المدينة المدهشة وروائعها المعمارية المميزة. وهذة الحالة الفريدة التى لا نظير لها تمنح "المتتبع" لعمرانية سامرَّاء و"القارئ" لها تصورات حقيقية وواقعية لما تمّ انجازه في تلك المرحلة الزمنية من العصر العباسي؛ وبالتالي، تكشف عن قيمة وأهمية نوعية المقاربات التصميمية الموظفة في حلول الحدث العمراني للحاضرة العباسية الجديدة، مثلما يمكن لها ان تظهر، بوضوح، تأثيرات تلك الحلول والاساليب المعمارية، ليس فقط على مجمل مسار منجز العمارة الاسلامية، وأنما ايضاً على منتج عمارات تعود لثقافات مختلفة.

ومن نافلة القول التأكيد، هنا، بأن حدث تأسيس سامرَّاء هو حدث حضري بامتياز، وليس كما يحلو للبعض اطلاق تسمية "معسكر" حربي عليها بدلا من اعتبارها "مدينة" كاملة الاوصاف. وقد سبق لنا ان اثرنا هذة الاشكالية في مطلع هذا الفصل، و لا نرى حاجة لاعادة تبيان مُسوَّغات ذكرها مرة اخرى. لقد كانت سامرَّاء او " سُـرَّ مَنْ رَأَى" منذ تأسيسها تدين بحدودها وأطرها الحضارية الى نوعية طوبغرافية موقعها المستوي نوعا ما والمحدد، اساساً، بمجرى نهر دجلة المار في جانبها الغربي "الايمن"، وبالانهر التى تحيطها من جهة الشمال ومن الشرق خصوصا حيث يوجد مجرى "القاطول الكسروي". وقد افضت مثل هذة الخصوصية لطبيعة الموقع المختار الى عدم الحاجة لوجود اسوار محصنة تحيط بسامرَّاء اسوة بمثيلاتها من المدن الآخرى. كما نتجت عن تلك الخصوصية المكانية إمكانية نموّ وتوسع المدينة بشكل سلس ومن دون معوقات تذكر؛ وهو ما حدث مرارا في مخطط سامرَّاء، حيث مُدَّت شوارع عريضة باتجاهات مختلفة في المدينة، مثلما أُتيحت الفرص لعمل مواقع عديدة لتجمعات سكنية او ادارية او دينية الخ.. في انحاء مختلفة من المدينة وضمن نطاقها الحضري.

لقد تحدثنا باسهاب في هذا الفصل عن مفردات التخطيط الحضري لمدينة سامرَّاء وعناصرها الاساسية، التى شكلت بُنّية ذلك التخطيط، وطبعت نوعيته بطابع خاص، محددة، في الاخير، طبيعته الحضرية. ولعل حضور سلسلة "الشوارع/ الجادات" العريضة والطويلة والمتوازية الممتدة من شمال المدينة الى جنوبها، في مخطط المدينة مثل الحدث التخطيطي الاهم، بما تعكسه من قيمة وبما تضمنه من تأثير على مجمل بنية العاصمة الجديدة، التى في الاخير اكسبتها خصوصيتها التى منحتها فرادتها. فهذة الشوارع الرئيسية السبع العريضة والمتوازية، هي التى اتينا على ذكر اسمائها واوصافها في مكان اخر من هذا الفصل، حددت بنية التخطيط العمراني، وجاءت معتمدة على تقاطع تلك الشوارع الرئيسية الطولية مع شوارع جانبية امتدت افقياً باتجاه شرق- غرب، مشكلة نمطاً تخطيطياً اقرب الى "التخطيط الشبكي/ الشطرنجي"، الذي شاع يوما ما في المدن الاغريقية التاريخية وانتشر لاحقاً في اسلوب تخطيط الكثير من المدن الرومانية القديمة، ولكن من دون ان يكون الحدث العمراني السامرائي" "وريثاً" لذلك الاسلوب التخطيطي ولنمطه الخاص. اذ يتمثل النظام التخطيطي الشبكي الكلاسيكي بوجود تقاطع شارعين رئيسينّ، وعادة ما يسمى الطولي: الشارع الشمالي – الجنوبي بـ "الكاردو" Cardo ، وشارع عرضي: هو الشرقي –الغربي ويدعى بـ "الديكامانوس Decumanus . وبناء على هذين الشارعين يتم تنظيم شوارع المدينة الفرعية الاخرى بطريقة مستقيمة ومتوازية ومتقاطعة، ما يخلق فراغات منتظمة داخل المدينة. في حين ان نمط عمرانية سامراء يستند على شوارع رئيسية طولية متوازية "لا" تتقاطع مع بعضها، وانما الشوارع الجانبية (غير الرئيسية)، هي التى تتقاطع مشكلة تلك الفراغات التى تملئ عادة بنسيج من الابنية السكنية المتكونة من "القطائع" للنخبة، و"دور" سكنة الناس العاديين.

امتازت سعة اطوال وأَعراضٌ شوارع سامرَّاء الرئيسية بمزايا لافتة واستثنائية لم تكن معروفة سابقا في تجارب انماط التمدن العالمي ومفرداته، لا من ناحية العرض الواسع ولا لجهة امتداداتها الطولية. فمن ناحية العرض، وكما اشرنا الى ذلك سابقا، فقد تجاوز ذلك العرض مئة متر تقريبا في احدى الامكنة منها (شارع الأعظم او كما يدعى شارع الّسَّـرِيْجة على سبيل المثال)، اما لجهة الطول فقد وصلت ابعادها في بعض شوارعها (شارع الاعظم، مرة آخرى، كمثال)، الى حوالي 19 كم زمن المعتصم والذي امتد كما يشير "احمد سوسه" الذي تعقب اثاره ورسم مخططا له من "..آخرالبناء في المطيرة جنوباً الى لآخر البناء في قطيعة أشناس ودور عربايا شمالا. (احمد سوسةـ ري سامراء، ج.!، ص. 61). علماً ان الشارع الاعظم (الّسَّـرِيْجة) مُدّ مرة اخرى نحو الشمال زمن المتوكل عند تأسيس المتوكلية ليصل الى موقع "القصر الجعفري" في اقصى منطقة من شمال مدينة سامرَّاء، وفقاً الى اليعقوبي عندما يكتب بان <المتوكل عندما بنى الجعفرية في الماحوزة مذّ الشارع الأعظم من دار أشناس التى بالكرخ،..ثلاثة فراسخ إلى المطيرة وجعل عرض الشارع الاعظم مائتي ذراع وقدر أن يحفر في جلنبي الشارع نهرين يجري فيهما الماء من النهر الكبير الذ ي حفره" (اليعقوبي، البلدان، ص. 266، وانظر العلي، ص. 75 -76.). معلوم ان هذة الابعاد الرحبة، والواسعة غير المسبوقة كانت ملائمة جدا لاحتياجات "مستخدميها" من الفرسان والخيالّة الذين عدوا اكثرية سكنة سامرَّاء والذين تحدثنا عنهم في مكان آخر من هذا الفصل.

ترسم اتجاهات شوارع مدينة سامرَّاء مخططاً يتضمن ممرات متوازية تمتد باتجاه شمال – جنوب، كما اشرنا الى ذلك قبل قليل. انها بهذة الصيغة تحاكي امتداد شريان المدينة الرئيس وهو نهر دجلة المار بمحاذاة المدينة من جهتها الغربية / اليمنى. وتسمح خصوصية طوبغرافية موقع سامرَّاء بامتدادات وتوسيع دائمين لصيغ خطط تلك الشوارع والاضافة اليها. بمعنى آخر، من السهولة بمكان مدّ شوارع جديدة من جهة الشرق مثلا في مخطط المدينة (وهو الامر الذي حدث واقعاً ومرارا). فشارع "الحير الجديد" الواقع في اقصى الشرق استحدث عندما تم ردم سور الحير وبناء هذا الشارع الموازي الى شارع "عسكر" ضمن شبكة شوارع المدينة الآخرى. ونظريا يمكن ايجاد "شارع" آخر، اذا كان من ثمة مطلب او ضرورة لذلك، لان طبيعة تضاريس المدينة، والتى في غالبيتها مستوية نوعا ما، تتكفل وتضمن اجراء مثل تلك الامكانات التخطيطية.

لا توجد في "فضاء" ممرات شوارع المدينة، وكما ذكرنا سابقاً، اي نوع من محاولة او نية لـ "تأثيث" تلك الشوارع بعناصر فنية معينة، كأن تكون ثمة انصاب او بوابات تذكارية او رموز نحتية او ما شابه ذلك فيها. لكن ممرات تلك الشوارع كانت مكسية بنوع معين من الحجارة (الحصى) تختلف في نوعيتها عن تكسية الممرات المجاورة لها والخاصة بالسابلة. ولعل ما اشار اليه "ابو علي المقالي" (الذي ذكرناه في مكان آخر من هذا الفصل)، والشعر الذي اورده والخاص بشوراع سامرَّاء:

" لا تقعدن بسامـَرَّي على الطرقِ إن كُنت يوماً على عَينَيك ذا شَفَقِ

حوافر الخيـل أقواس وأسهمُها صُمُّ الحجارة والإغراض ِ في الحِدَقِ "

الخ...لهو دليل واضح على وجود تلك الاكساءات ونوعها التى انطوت عليها شوارع المدينة.

وثمة قرار سبق وان أُتًخذّ بوجود الاشجار على جانبي الشوارع الرئيسية ولاسيما زراعة النخيل عند جانبي الشوراع. (بيد ان تلك الفعالية المحتملة لم تتحقق بصورة كاملة، لاسباب فنية متعلقة بامور خاصة بحفر نهر الجعفري، تلتها احدث اغتيال الخليفة المتوكل فيما بعد). لكنها بقيت تمثل احدى القرارات المهمة والرائدة في تنظيم الفضاءات الخارجية ضمن قضايا عمرانية وتخطيط سامرَّاء.

لم تكن شوارع سامرَّاء "تقود" او تؤدي الى <بؤر محورية> Focal Point او نقاط ارتكاز Fulcrum تخطيطية في المدينة، كما هو الحال في اجراءات مماثلة لدى ثقافات تخطيطية آخرى كالعمارة الكلاسيكية او الغوطية وغيرهما. اذ ان الشوراع فيها برحابة "أَعراضٌها " الواسعة (جمع العَرْضُ: خلافُ الطُّول) التى تقدر بعشرات الامتار شكلت، نوعا ما، تنويعاً لفضاءات مفتوحة بالمدينة. صحيح ان بعض الشوارع تقع على جوارها العديد من ابنية سامرَّاء المهمة (كان الشارع الاعظم " الّسَّـرِيْجة" يضم وفقا لليعقوبي عددا من المنشآت الحكومية كدار العامة وجامع الخليفة المعتصم وديوان الخراج وسوق الرقيق ومجلس الشرطة والسوق العظمى ودور النخبة الخ..)؛ الا ان ذلك لا يعني بالضرورة توقف الشارع عند احد منها، او التركيز على تلك "البؤرة" التخطيطية الهامة Focal Point، او بما يسميها "محمد مكيه" (1914 -2015) المعمار العراقي المعروف بـ "الميتاء". (وكلمة "المِيتاءُ"، التى استخدمها المعمار الرائد ـ تعني ووفقا للمعجم الوسيط، بانها <غاية ينتهي إليها السِّباقُ>، وقد وردت تلك الكلمة في نص نادر يعود لمحمد مكيه كتبه عام 1949 (هو الذي، وقتها، اكمل دراساته العليا حديثا وعاد الى العراق، وقد كتبه خصيصا بطلب من احمد سوسة بان يعلق على مخططات سامراء ويبدى رأيه حول تخطيط المدينة العباسية التى قام، حينذاك، بزيارة خاصة لها، وتم نشر تلك المطالعة في كتاب احمد سوسه "ري سامراء"، الجزء الثاني، بغداد، 1949، ص. 629). وطالما نحن نتحدث، الآن، عن اهمية <الشوارع> في بنية التخطيط السامرائي، نجد من المناسب اقتباس كلمات معمارنا الرائد التى قالها عن خصوصية "الشارع الاعظم" في مخطط سامرَّاء. فقد وردت في نص مكية المعنون <اختطاط مدينة المتوكلية ومدى تقدم الفن الخططي الاسلامي" المنشور في كتاب سوسة، الكلمات الآتية ".. يكاد يكون الشارع الأعظم لمدينة المتوكلية شبه ساحة عامة طولية للمدينة، تحيط به ساحات متعددة للقصور والمباني، ولا شك في ان امتداد التشجير ساعد على وقايته من حر الشمس وتخفيف وطأة الجفاف الى ما هناك من معالم التزيين في وضع النافورات التى لها تأثير حسن في تبريد الهواء وعوامل التنسيق المدني التى قد نرجو ان يؤخذ بها بنظر الاعتبار في اختطاط المدن الحديثة" (مصدر سابق، ص. 633).

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

صحيفة عبرية: "إسرائيل" وأميركا يخشوّن أنصار الله كونها جهة يصعب التغلب عليها

الأنواء تحذر من رياح عالية في العراق

مقتل إعلامية لبنانية أمام المحكمة

لا حلول لـ"الشح".. العراق يلوح بـ"تدويل" أزمة المياه مع تركيا لزيادة حصصه

اعتقال قاضي المحاكم الميدانية في سجن صيدنايا بسوريا

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

عبد السلام الناصري.. الاختيار الصعب المحفوف بأشد المخاطر

مثقفون: غياب العراق عن المؤشر ليس بالمستغرب في ظل اضطراب الوضع السياسي الذي ألقى بظلاله على الثقافة

موسيقى الاحد: استطرادات لغوية

السرد: متخيلات وأقيسة

الفيلم العراقي (آخر السعاة): أفضل ممثل وأفضل سيناريو

مقالات ذات صلة

معضلة التعليم الكبرى.. المنهج والاختبارات
عام

معضلة التعليم الكبرى.. المنهج والاختبارات

سامّي رايت*ترجمة: لطفية الدليميتحدّد هذه معدلات الامتحانات النتيجة النهائية لسنوات عديدة من الدراسة التي تمّ اختزالُها في بضع ساعات امتحانية في قاعة للامتحان. لكن بالنسبة للأكثرية الغالبة من هؤلاء الشباب اليافعين فإنّهم ما أن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram