جنوب  دنى طالب.. تروي عن الشمال أيضا

جنوب دنى طالب.. تروي عن الشمال أيضا

شاكر الانباري

" جنوب" هو عنوان جامع، موح، لذلك الجزء من الخارطة العراقية التي تشمل الزبير، والتنّومة، والعشار، وأبي الخصيب وغيرها من الأصقاع، فيما اصطلح عليه بالبصرة.

بصرة الخليج واهب المحار والردى. المكان الذي انطلق من مينائه شخص بسيط، غامض، اسمه السندباد، ليجوب الجزر والبحار، جالبا معه كل مرة مزيدا من القصص، والحكايات، والأساطير.

والجنوب هو الخلفية الاجتماعية للشخصيات والأحداث في كتاب دنى غالي، إذ ضم روايتين: الأولى "خطوات" وهي في جزأين، والثانية "مانفيستو الغرفة" وهي مقاطع سردية تستعاد فيها الطفولة، والمراهقة، وهموم الفتيات في زمن بعيد، قبل الحروب المترادفة ربما. أي حين كان الناس يمتلكون أحلاما حقيقية في تغيير واقعهم عبر الحركات الثورية، والتثقيف الحزبي، والنشاطات التوعوية لعامة الناس، ثم الحرب الأولى المهلكة، حرب الثمانينيات الكارثية بين العراق وإيران وقد وقعت على تخوم البصرة. والبصرة مدينة الكاتبة أيضا، تعرف أزقتها، وقنواتها، وكورنيشها، وقلبها القديم، ومناطقها الريفية، وغابات نخيلها ونسيمها.

رواية "خطوات" تبدأ بصعود الصديقين، رفيقي الطفولة، فاضل وحسام في الطائرة المتجهة إلى كوبنهاغن حيث يقيم الشخص الثالث وائل. وهم الثلاثة أصدقاء منذ أيام البصرة. عائلات يعرف بعضها بعضا، أحلام مشتركة، مغامرات شبابية وأوهام فردية. وهنا يتم العثور في حقيبة فاضل على دفتر مذكرات أرسل من البصرة إلى وائل. كان بشكل ما الذريعة الفنية لاستدراك الشخصيتين لماضيهما البعيد في البصرة، والنجف، وكربلاء، والحرب، ومناطق الطفولة والنضوج. الحاضر هو أوربا، والماضي، وأغلبه في مدينة البصرة، لا ينفصلان، يتبادلان الأدوار في الحضور، ويؤثر أحدهما في الآخر. وليس الأمر بمستغرب بعد أن ترابطت الأحداث الكونية في الروح البشرية فلم يعد هناك انغلاق على ما يجري في هذا الكوكب. وقد فرضت ذلك السوشيلميديا، وسهولة السفر والانتقال من قارة إلى أخرى، وترابط الاشكاليات البشرية لتضغط على الجميع في أيما بقعة يعيشون، وفي أي مدينة يقيمون.

كان ما يربط الشخصيات هو دفتر المذكرات الذي كتبه والد وائل في البصرة وأرسله له قبل أن يموت، وكأن الماضي هو الخيط الوحيد الذي يربط تلك الشخصيات المشتتة والقلقة والهاربة من مصائرها، لا لتجد الاستقرار في النهاية، إنما لتنفتح مزيد من الأسئلة حول جدوى هذه الحياة التي يعيشونها كمهاجرين من بلدانهم. غاب عنهم أي هدف. وليس أمامهم سوى نقطة معروفة مسبقة هو الموت في الغربة، مثل فاضل الذي مات عند نقطة تفتيش في أحد مطارات أوربا. نطل على علاقات حب، ونساء، وعائلات في أمكنة بعيدة وأطفال يعيشون مغتربين مثل آبائهم.

وفي الجزء الثاني من رواية "خطوات" تكشف الكاتبة سر ذلك الدفتر السميك، العتيق. نتابع المذكرات وهي توثق حياة الأب، أب وائل، في مدينته البصرة لشهور سنة 2008 . وهنا يطل القارئ على هموم يومية كالحصة التموينية، والكهرباء، ومراجعة الأب للمستشفى، وحركة ابنته وحفيده، واصلاحات البيت اليومية، واتصالات ابنه من دمشق وكوبنهاغن، وأحوال المدينة الحياتية. أحداث لم تعد جديدة لكنها ضاغطة على شريحة واسعة من البشر غامرت بالعيش في بقعة أخرى غير بلدها الأم. واليوم صار لدينا أدب مهجر بحق، لا في الرواية فقط بل في معظم الفنون. منتجوها هم مثقفون عرب يعيشون خارج أوطانهم، ويندمجون في مجتمعات غير تلك التي غادروها. لكنهم، وبصورة محكمة، يحتفظون بالتماعات قديمة لمدن، وشخصيات، وحوارات ماضية في ذاكرتهم. أدب اغتراب، ثقافة اغتراب، فن مغترب وهكذا. شخصيتا اللاجئين فاضل وحسام هما نموذج واضح للقاء بين مكانين، بلد اللجوء والبلد الأم، عدا عن تشظي الهوية وعبور الرواية للحدود الوطنية لتحكي عن نماذج جديدة على رواياتنا العربية لا في العراق فقط، بل في عدد كبير من الدول العربية. هناك أكثر من حاضنة، اللغة، العادات، العلاقات الانسانية بين قوميات مختلفة ومنابع جديدة للفن والنشاطات اليومية والهموم كذلك.

ولكون مركز ثقل رواية "خطوات" يستعيد الماضي بشكل صارخ، تعود الكاتبة دنى غالي لتقدم لنا عبر روايتها الثانية "مانفيستو الغرفة" حياة المهاجر بشكل تفصيلي. وذلك عبر زوجين تمكنا من الهرب من البصرة وأجواء الحرب، ليجدا نفسيهما يعيشان في كوبنهاغن عاصمة الدانمارك كلاجئين. منال وزوجها أوحد. عبر فصول قصيرة شاعرية، مكثفة، لاحقت الكاتبة منال منذ طفولتها، وتابعتها حتى وصولها الجامعة. علاقاتها مع صديقاتها، مع الأسرة، هموم المجتمع الصغير الذي تعيش فيه، سفرات إلى التنومة، العبّارة التي تنقل المسافرين بين ضفتي شط العرب، أهواؤها الأولى في الجامعة وتعرفها على أوحد. هناك استرجاع لنمط حياة كاملة، وكأنه المعادل الموضوعي لحياة الاغتراب سواء في الرواية الأولى أو الثانية. فقط في رواية مانفيستو الغرفة يعيش القارئ تفاصيل حياة المغترب، بحساسية عالية هي حساسية منال. ينفذ إلى روحها قلق المنفى، وتغيرات العلاقة الزوجية، وايقاع الزمن مع لغات وأمزجة ورؤى، وشخصيات جديدة اسكندنافية الطابع بالهيئات، والسلوك، والتفكير.

جملها السردية في الروايتين محكمة ومشغولة بروية، تميل في بعض منها إلى نكهة شعرية تضفي شيئا من الطراوة على سياقات السرد. وعند منال خصوصا، وكأن الكاتبة تقمصت روحها الأنثوية المتوترة، الممتلئة بالهواجس والشكوك وهي تعيش دوامات ساعاتها المحسوبة بدقة. وهنا في "مانفستو الغرفة" يكاد الماضي أن يغيب ويصبح الحاضر معضلة كل لحظة، وساعة. ومثلما تبحث شخصيات روايتها الأولى "خطوات" عن الهدف من الرحلة، يعود السؤال ذاته إلى منال بطلة رواية "مانفيستو الغرفة».

ما الجدوى من كل هذه المغامرة المتعبة؟ مغامرة السندباد البحري المعاصر، المغامرة المفتقدة لليقين والمعنى، والبوصلة حتى؟

جاءت ملاحقة التفاصيل بعين نابهة مدققة، وتقشير الشخصية المغتربة من زوائدها كالأخلاق العامة، والتقاليد المجتمعية، والنفاق الديني، والمجاملات، كي تفسح المجال واسعا لبيئة المغترب الجديدة لتنفذ إلى الفرد. إلى وعيه وقلبه وأفكاره. تواصل ذلك عبر حرية فردية واسعة في التعبير عن الأفكار، والهواجس، والرغبات، والسلوكيات. وكأننا إزاء وقفة مع النفس عميقة، وجادة. وهو ما لم يتح في وطن المغترب المهاجر المنفي، الوطن الأم الذي تحول من بعيد إلى دخان لا شكل له. بالتالي يمكن دراسة تلك القشور الروحية والشخصية بعدسة الفن الروائي التحليلي بعد أن أصبح الكاتب أداة لذلك. وهذا ما فعلته الروائية مع بطلة روايتها الثانية منال متتبعة إياها في جل تداعياتها الذهنية، واستشعاراتها التي تميل إلى البوح غالبا. لكن تبقى هناك دائما غيوم في السماء، وأشجار عند زاوية الشارع، وشمس تشرق كل يوم، وليل يهبط على الكائنات. يبقى ذلك في كل بقعة من بقاع هذه الأرض. يبقى مشردون ومغامرون ومتوحدون وعشاق وحالمون. وتبقى طقوس لحرق الساحرات على هذه الأرض في ليلة من ليالي الهجر، والوحدة.

تعمل دنى على تقديم قراءة دواخل الشخصيات كلها، المهمة منها خاصة مثل فاضل وحسام ووائل ومنال، عن حكمة هذه الرحلة الطويلة والمعقدة. رحلة الحياة، حياتهم، وهم يتنقلون بين طهران ودبي وستوكهولم وموسكو وكوبنهاغن والبصرة وبغداد وغيرها من المحطات. ولكل منها حكايات، ومواجع، ووجوه. كذلك هي تمسك بشخصيتها منال لتغوص إلى أدق انفعالاتها وهواجسها وتحولاتها مع تقدم سنوات الاغتراب. والاغتراب في النهاية ليس امتيازا. هكذا نصل إلى هذه الحقيقة الواضحة كالماء. بل هو ظاهرة أصبحت بارزة في الواقع العراقي والعربي والعالمي.

وقد لوحظ أيضا الابتعاد شبه الكلي عن تفاصيل السياسة، فهي خلفية بعيدة لماضي الشخصيات. والمغترب منبت، وحيد، لا جذور له هنا أو هناك، ومفهوم الوطن لديه اختلف. مشاعره متناقضة أحيانا. حائر بين لغتين، وعقلين، ومكانين. وزمنين. إلى أن يتحول التماسك اليومي لحظة منشودة لذاتها. ظاهرة مثل تلك تتجلى في النصوص الأدبية والفنون البصرية يوما بعد يوم، وسنة بعد أخرى. لتشترك في مجرى عالمي أوسع لم ينج منه أحد من المثقفين، حتى لو حاول الحفاظ على المحلية المغلقة.

إنها بصمة عصر في طريق طويل. وهي بالتالي سمة الإنسان وبصمته في هذه الحضارة الجديدة المشتبكة، المتداخلة، المتفاعلة. الحضارة الباحثة عن منفذ فضائي وعلمي يقترب من الخيال، للهجرة من جديد إلى كواكب ثانية في المستقبل المنظور.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top