الرُّصافي عاشقاً للغة.. ومدافعاً عن المرأة

آراء وأفكار 2023/01/28 10:19:57 م

الرُّصافي عاشقاً للغة.. ومدافعاً عن المرأة

عبد الكريم البليخ

الرُّصافي صاحب نشأة متواضعة لا سبيل فيها أو معها إلى الفخر بحسب أو نسب، ولذلك كان لا يَعتدُّ بشيء قدر اعتداده بشاعريته وحدها.. وقد تأثر بأمّه تأثراً كبيراً في جميع مراحل حياته. وإليها يرجع الفضل في تشبّعه للعروبة والبداوة وتلك العزلة التي كان يختارها دائماً لنفسه كبدوي يُلازم الصحراء في ضجر من المدينة رغم أنّه كان من أكثر الناس حبّاً للحياة واستغراقاً في مفاتن المجتمع الحديث واستمتاعاً بمباهجه.

فالرُّصافي لا تقتصر أهميته على شاعريته وانما يتميّز بانطلاقته كمفكر حر ومناضل من أصلب الذين خاضوا معترك الكفاح في سبيل الاستقلال الوطني للعراق والنهوض القومي للأمة العربية جمعاء.

الرُّصافي نبت أصيل من أبناء الشعب العراقي.. كان والده عبد الغني أفندي جندياً في الجندرمة، وكانت أمه فاطمة بنت جاسم امرأة عربية من احدى قبائل البدو.

ولد الشاعر معروف الرُّصافي في النصف الشرقي من بغداد الذي يُعرف بالرصافة عام 1873 وشهد وهو طفل ولاية مدحت باشا على العراق من قبل السلطان عبد العزيز.. وهكذا تنسّم في صباه هبّات الحرية التي حملها أبو الدستور إلى كافة ولايات آل عثمان. فلقد كان مدحت من أكثر الولاة الذين عرفهم تاريخ المنطقة تحرّراً، فلمّا شبّ به الطوق دخل الكتّاب في بغداد إذ تفتحت ملكاته على دراسة الدين والفقه وأدب اللغة العربية.. لكنه سرعان ما تحوّل عن دراسته الدينية إلى الدراسة المدنية فالتحق بإحدى المدارس العسكرية حتى يجد الوظيفة التي تضمن له الرزق، ذلك أنّه كان يعيش كل صباه مع أمّه بينما والده يجوب القفار جندياً فأصبح بحكم هذا الوضع المسؤول عن اعالة الأسرة.

موهبة الشعر

وحين اكتشف الرصافي موهبته في الشعر ترك المدرسة العسكرية واتجه لدراسة الفقه من جديد.. وانكب يلتهم كتب الأدب في نهم حتى استوفى حظه من التراث الشعري الشامخ، ولم يكن أمامه لكي يكسب قوته إلّا أن يمتهن تدريس اللغة العربية فاستمر على هذه الوظيفة حتى عام 1908، وطوال هذه الفترة عاش يقرض الشعر ويراسل الصحف العربية في القاهرة ودمشق ولكنه كان يعيش في عناء وعسر شديدين وهو ينهض بأعباء مالية ثقال في سبيل أسرته، وبلغ الخامسة والثلاثين وهو يدرس في اعدادية بغداد وقد بدأ أسمه يُعرف بين الشعراء المرموقين.

ولكن على أي أساس أقام الرصافي شعره؟! ومن أي نبع كان يستقي فلسفته؟! إن ذلك ما قد يميّزه حقاً عن بعض الشعراء المحدثين.. فقد نشأ على عكس شوقي نشأة شعبية خالصة، ولهذا غلب عليه الجنوح للواقعية كما غلبت على طبيعته الروح الثائرة وتدرج على عكس حافظ ابراهيم.. في بيئة لا تتيح له أدنى سبيل إلى الاعتدال، ولذلك كان عقلانياً لا يعوّل في حكمه إلّا على منطق الواقع بقدر ما كان ثائراً لا يطيق الصمت، وقد أخذ عن ثقافته العربية الاعتداد بالنفس والكبرياء الذي يبلغ حد الصلف.. كما أخذ عن ثقافته الغربية الايمان بالعلم والتقدم المادي والاستقلال بالرأي إلى حد مخالفة العرف السائد والتقاليد المقررة والمجاهرة بمعتقده في وجه كل مقدّس مهما كانت قداسته..

أحب صراحتي قولاً وفعلا... وأكره أن أميل إلى الرياء

على أن هذه الطلاقة كلفته الكثير.

فقد بلغ به الحال في بعض هفواته إن كان يبرّر المجون تبريراً فلسفياً على أنَّه وسيلة للتحرر العقلي ومقاومة الرياء والنفاق.. لكن الحق الذي يجب أن يُقال أنَّ الرّصافي كان سابقاً لزمانه في كثير من معتقداته بقدر ما كان معبّراً عن بيئته في تصويره لهذه النظرات.. من ذلك أنه لم يقف عند حد الدعوة إلى مقاومة الاستبداد ولا عند المحاكاة العقلية في التمسك بأمجاد الماضي ومفاخره.

ولكن أيها العربي اني

أراك بغير ما يجدي مريدا

فشر العالمين ذوو حمول

إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا

وخير الناس ذو حب قديم

اقامة لنفسه حسباً جديدا

توجه وجه عزمك نحو آت

ولا تلفت إلى الماضين حيدا

أرى مستقبل الأيام أولى

لصالح من يحاول أن يسودا

كان الرصافي اذن مستقبلياً في نظرته وتطلعاته.. ولا غرو فهو القائل: „العصر الحاضر عصر مدنية راقية وعلم واسع وآثار باهرة ومخترعات عجيبة ومستكشفات غريبة، كما أنه عصر نفوس محررة وأفكار طلقة ومدارك عالية».

أيها الناس هذا العصر عصر العلم والجد في العلا والجهاد

عصر حكم البخار والكهرباء والماكينات والمنطاد.

مدافعاً عن المرأة

أما بالنسبة للمجتمع فقد كان من أكثر شعراء عصره اهتماماً بالمجتمع الذي عاش فيه. ويقول عن ذلك: «سمعت بعض أدباء الترك يقولون أن الأدب لا غاية له ويتوسعون في القول حتى يعمموا به ما يُسمونه بالفنون الجميلة أي الشعر والموسيقى والرسم والنحت.. ولقد تأملت هذا القول فلم أجد فيه ما ينطبق على المعقول إذ لا ريب أن الغاية هي ما يكون لأجله وجود الشيء وغاية الشاعر من شعره اثارة العواطف والتأثير في النفوس وبذا فانه لا يسعه بحال من الأحوال أن يقول الشعر صنعة للصنعة بل يقوله لخدمة المجتمع».

قضية فصل فيها الرُّصافي من زمن لأنه كان شديد الاحساس بحياة الناس وآلامهم لالتصاقه بالجموع الشعبية. يقول هو نفسه أنَّ مشاهد البؤس في حياة الناس كانت أشد دوافعه إلى نظم الشعر. „لا تحركني إلى القصيدة تلك النزوات الكاذبة من أجل وردة نضرة، أو ليل مقمر، أو غزال شارد نافر..". وهذه أبيات من قصيد نظمه عن أرملة لقيها ومعها ابنتها تسيران في الطريق.. تنمّ عن انسانيته.

لقيتها.. ليتني ما كنت ألقاها

تمشي وقد أثقل الاملاق ممشاها

أثوابها رثّة والرجل حافية

والدمع تذرفه في الخد عيناها..

مات الذي كان يحميها ويسعدها

فالدهر من بعده بالفقر أشقاها..

إلى أن يقول..

حتى دنوت إليها وهي ماشية

وأدمعي أوسعت في الخد مجراها

وقلت: يا أخت مهلاً انني رجل

أشارك الناس طراً في بلاياها

لا غرابة بعد هذا أن يكون موضوعه المفضل دائماً الدفاع عن المرأة، وله في ذلك قصائد عدة نادى فيها بتحرير المرأة، وتعليمها وتركها لتعمل، ومساواتها التامة بالرجل وفي ذلك كان الرصافي أسبق وأشجع من كافة معاصريه.. بل ومن بعض من تلوه..

كم في بيوت القوم من حرّة

تبكي من البؤس بعيني أمه

عاب عليها قومها ضله

أن تكسب القوت وأن تطعمه

وفي قصيدة أخرى..

هل يعلم الشرقي أن حياته

تعلو إذا ربى البنات وهذبا

والشرق ليس يناهض إلّا إذا

أدنى النساء من الرجال وقربا

فاذا ادعيت تقدماً لرجاله

جاء التأخر في النساء مكذبا

من أين ينهض قائماً من نصفه

يشكو السقام بفالج متوضبا

الدعوة إلى الوحدة

وإلى جانب هذا الوعي الاجتماعي البعيد الغور، كان الرصافي بالدرجة الأولى سياسي العقلية يفسّر ذلك بقوله: „يجب أن يملك العرب أمرهم في السياسة حتى يمكنهم أن يترقوا لأن جميع الشؤون الحيوية علمية واجتماعية واقتصادية لا تدور في هذا العصر إلّا على محور السياسة، ويستحيل على أمة أن تتقدم في هذه الشؤون وهي غير مالكة لأمرها في السياسة».

وكذلك لم يسمه يوم دعى عام 1908 للاشتراك في تحرير احدى الجرائد السياسية التركية إلى أن يخف إلى الاستانة ليلحق بقرينة الشاعر العراقي جميل الزهاوي ويشايع الاتحاديين في دعوتهم من أجل الحرية والدستور حتى إذا أغلقت الجريدة بعد قليل استمر في تركيا وراح يطنب في تمجيد الهبّة التي قاموا بها وانحاز إلى صفوفهم بشكل جارف فعينوه عضواً في البرلمان التركي ـ مجلس المبعوثان.

وأقام الرصافي في الأستانة طوال الحرب العالمية الأولى إلى أن انتهت وأدرك أخيراً أن حركة الاتحاديين لم تكن إلّا دعوة القصد منها احياء مجد تركيا على حساب ولاياتها المستعبدة تحت ستار الحرية والدستور فانقلب يندد بالأتراك ويحنو على وطنه..

أأمنع عيني أن تجود بدمعها

على وطني اني اذن لبخيل

ثم راح يقرّع أهله على تقاعسهم عن الانقضاض على الأتراك بعد أن تكشفت له حقيقة الحكم التركي سواء عن طريق آل عثمان أو طريق المخادعين من الاتحاديين.

برئت إلى الأحرار من شر أمة

أسيرة حكام ثقال قيودها

عجبت لقوم يخضعون لدولة

يسوسهم بالموبقات عميدها

وأعجب من ذا أنهم يرهبونها

وأموالها منهم ومنهم جنودها

وفي طريقه إلى العراق نزل في سوريا حيث قامت حركة الجامعة العربية الرامية إلى الاستقلال التام عن تركيا.. وسرعان ما اندفع يقظاً إلى أحداث العالم العربي فانطوى تحت لواء هذا الشعور العربي العام وراح يدعو إلى الوحدة والتضامن.

بني العروبة هبّوا من مراقدكم

إلفى متى نحن نشكو صولة النوب

فقد لعمري افترقنا شر مفترق

وقد لعمري انقلبنا شر منقلب

بل انهضوا للمعالي خير نهضتكم

واستعصموا باتحاد محكم السبب

من أبرز المعارضين

اضطر الرصافي أن يقيم في سوريا وهو في حالة يرثى لها من البؤس والاملاق حتى لقد باع معظم مؤلفاته بأبخس الأثمان ليأكل من عائدها الضئيل. وحين عرضت عليه الوظيفة للتدريس في فلسطين ذهب إلى هناك وأقام فيها إلى أن استتب الأمر بعض الشيء في العراق، وأثناءها قد خلع العمامة وارتدى الزي الافرنجي.

وفي عام 1921 عاد إلى أرض الرافدين وعين نائباً لرئيس لجنة الترجمة والتأليف فاضطر إلى قبول المنصب لحاجته، ثم ما لبث أن استقال.

كان الرصافي من أبرز المعارضين للمعاهدة الانكليزية العراقية فقد أعيد انتخابه للنيابة من الأمة مرات رغم صلابته وصراحته ومجابهته الشجاعة للإنكليز وعملائهم في البلاد. وقال الكثير الذي استحال نشره. ذلك أنّه كان مجنوناً بالحرية ولا يعرف حداً لطلاقته وصراحته.. ولذا سرعان ما أبعده „أولو الأمر" عن حظيرتهم فاعتزل ميدان السياسة وارتدى العباءة وراح يعيش في الصحراء، وبلغ به الأمر في أخريات أيامه أنّه كان لا يجدُ القوت رغم معاونة الكثيرين له، إلى أن فارق الحياة في السادس عشر من شهر آذار لعام 1945 تاركاً وراءَه ثمانية عشر كتاباً في مجموعة محاضراته وتعليقاته ونظراته وشعره..

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top