امبراطورية نبوخذ نصر.. والمصير المفجع

آراء وأفكار 2023/03/22 11:53:35 م

امبراطورية نبوخذ نصر.. والمصير المفجع

د. حسين الهنداوي

2-4

لاحظنا في دراستنا عن "الدولة والتاريخ ما بين أبن خلدون وهيغل"، ان فكرة ان "الدولة لها أعمار طبيعية، كما للأشخاص"، نجدها عند الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل بصيغة تكاد تكون خلدونية تماماً. إذ وبموجب مفهومه الخاص بالمراحل الرئيسية للتاريخ الكوني، يعتمد هيغل تقسيماً عاماً يطبقه على كل دولة فعلية،

يميز فيه، بوضوح، بين أربع مراحل مختلفة في سيرورة تطور هذا أو ذاك من المبادئ الخاصة والمحدودة من مبادئ الروح الكوني، ويأخذ الشكل التالي بكلمات هيغل: "إن روح شعب ما، هي كالفرد الطبيعي. وبصفتها هذه، فهي تزدهر وتتعزز، ثم تنتصر، ثم تضعف وتموت". وعليه تقتصر أطوار حياة الدولة في المنظور الهيغلي على الاطوار الأربعة التالية:

1ــ طور ولادة الدولة وانطلاقها، الذي لا تكون فيه "روح الشعب" قد بلغت بعد مرحلة الوعي التام لما تهدف إليه، الا ضمنياً، انما تقتصر على الشعور بضرورة النشاط، وتتحرك تحت شكل نزوع طبيعي غامض، لا يعرف الا غايات حقيقته المحددة.

2ــ طور الشباب والرجولة، حين تبلغ الدولة تحقيق الهيمنة والازدهار وكافة الانتصارات الأخرى. ففيها يصبح المبدأ جلياً وخلاقاً، وينزع إلى صيرورته كغاية. لذلك، فهو "أجمل الفترات"، ومرحلة "شباب ذلك الشعب".

3ــ طور الكهولة والهرم، الذي تفقد فيه الدولة حيويتها السابقة، كما تبدأ العقبات أمامها بحماية المنجزات التي حققتها، وهي أيضاً الفترة التي تبدأ فيها نهاية وصايتها التاريخية على الشعوب الأخرى، لمصلحة ضرورة انبثاق دولة جديدة، تحمل مبدأ أسمى، وتحت قيادة شعب تاريخي جديد.

4ــ طور المصير المفجع، الذي هو موت الدولة وانقراضها.

هذا التعاقب في الأطوار الطبيعية للدولة لا يتعلق بتوالي سلسلة من المراحل الاجتماعية أو السياسية أو الأنماط الحضارية، إنما هو تتابع لمستويات في قوة الرابطة الجماعية، التي تقوم بفضلها الدولة. فكما أنها مرتبطة بدرجة قوة "العصبية"، عند ابن خلدون، او بـ"روح الشعب"، عند هيغل، او بالروح القومية او الطبقية عند غيرهم، فأن سقوط امبراطورية ما، يفضي، بالضرورة، إلى قيام امبراطورية أخرى جديدة، كما أن انهيار الإمبراطوريات ليس حدثاً عرضياً، إنما نتيجة حتمية لمنطق التطور عينه على صعيد حياتها الطبيعية. وإن تتابع صيرورة او تطور حياة الامبراطوريات، بين طوري الولادة والموت، يظل مستمراً على نطاق التاريخ البشري ككل، وهو يبدو بمثابة تتابع مستقل بذاته، وميكانيكي إلى حد كبير، ومحلي وعالمي في ذات الوقت، إلى درجة يتوجب على كل عصبية أن تمر في التجربة التلقائية نفسها، لبناء الامبراطورية الخاصة بها.

ولئن بدا التقدم في التاريخ الكوني للامبراطوريات القديمة محدوداً وبطيئاً، فذلك لأن هذا التاريخ يقتصر، في واقع الحال، على سلسلة انتقالات منفصلة عن بعضها وتدميرية في اغلب الأحيان وبالتالي لا تحكمها علاقة التراكم، إنما علاقة القطيعة الدورية التي تظل في جوهرها انتقالات تقدمية في الوعي الإنساني بالضرورة ولو بنسب متفاوتة. إذ كلما نجحت "عصبية" ما في بناء امبراطورية تحقق الازدهار والهيمنة على العصبيات الأخرى، ستجد نفسها، بعد زمن محدد، آيلة هي ايضا إلى الانقراض ومنجزاتها الى الضياع، بفعل تناقضاتها الداخلية اولا، ثم إلى الفساد والاندثار، وكذلك دولتها، تحت أقدام عصبية جديدة، دخلت التاريخ بدورها لبناء امبراطوريتها الخاصة. وهذه القطيعة الحتمية، لا تقتصر على الامبراطورية، بل تشمل الحضارة أيضاً ولو بحدود بحكم ضعف روابط التبادل والتواصل بين مجتمعات إنسانية محكومة بالطبيعة الحربية الغالبة على امبراطورياتها الخاصة. فما عدا تأثيرات وتبادلات حضارية ضئيلة نسبيا، لم نجد ان الامبراطوريات المتعاقبة ورثت او اخذت الكثير من منجزات الحضارة السابقة عليها، بل اقتصرت على ما يتسرب اليها عبر الغزوات والحروب والتجارة او تجد نفسها محتاجة له او مرغمة على تقليده. فالتجربة السياسية للبشرية، ليست حركة واحدة، في التحصيل الأخير، إنما شبكة حركات متوازية، يمكن أن يتواجد بعضها إلى جانب البعض الآخر في التاريخ، دون تواصل أو تناقض، إلا خارجياً وعرضياً وهذا بفسر ضياع الكثير من المكاسب الحضارية على مجرى التاريخ. لكن وعلى العموم، لا قطيعة فعلية بين الحضارات، مهما كانت المظاهر التي توحي بوجودها. لكن هناك استمرارية كونية لها كما لظاهرة الدولة وتطورها.

اما التعبير الملموس عن أطوار حياة الإمبراطورية البابلية الحديثة فهي تعاقبت خلال نحو قرن من عمرها وكما يلي:

طور الولادة:

ولدت الإمبراطورية البابلية الحديثة كأهم نتائج حلول أوان زوال الامبراطورية الأشورية والذي كان من مقدماته اندلاع ثورات داخلية ضدها في معظم اقاليمها فور وفاة امبراطورها الاعظم آشور بانيبال (685-627 ق. م) الذي لئن نجح بلا ريب في إقامة امبراطورية مرهوبة الجانب وشاسعة، لم ينتبه الى ضرورة ترصين أسسها وبناها الداخلية وتوفير أسباب ديمومتها وازدهارها بل جعلها عسكرية حربية وكذلك حضارتها، ولذا بدأت عليها مظاهر الهشاشة والترنح حال موته، الى حد عجزت جيوشها الجرارة عن حماية مركزها الديني مدينة آشور وعاصمتها الزاهية نينوى قبل ان تخسر في 610 ق. م آخر مدنها المهمة حرَّان.

ونرى، مع المؤرخ وعالم الآثار الموسوعي الرائد طه باقر، ان من أسباب سقوط الإمبراطورية الآشورية تمادي ملوكها، ولا سيما آشور بانيبال، في سياسة الفتح والغزو والإغراق في النواحي العسكرية وتقديس الروح الحربية نظرا الى ان أعوام حكم ملوكها تكاد تكون حروباً متواصلة، وبذلك فقد حمّلوا شعوبهم ومواردهم فوق طاقاتها، ومدوا فتوحاتهم إلى جهات نائية يتعذر الاحتفاظ بها، ولعل أوضح مثال على ذلك فتح مصر الذي أنهك ماكنة الحرب الآشورية عدة سنوات. ويضاف إلى ذلك إن الركون الى سياسة القسوة والتدمير والقتل الجماعي التي سار عليها الملوك الآشوريون في غزواتهم جرّت على الآشوريين كشعب باكمله، نقمة شعوب البلدان المفتوحة وسخطها فيما لم يكن ليحصل ولاؤها وتبعيتها لهم إلا باستمرار الإرهاب والبطش إلى حد الإسراف.. كما تسبب التطرف والإغراق في العناية بفنون الحرب والفتك والدماء على حساب فنون السلم والبناء بإهمال تطوير موارد البلاد وتحميلها فوق طاقاتها.

وهكذا فقد وجد البابليون انفسهم فــي وضــع ملائم لنهوضهم لإقامة مملكة مستقلة خاصة بهم لا سيما وقد تزامن ذلك مع ظهور زعيم تاريخي نادر الدهاء والجرأة والطموح بينهم هو نبوبلاصر، الحاكم المحلي السابق لأقليم "بلاد البحر" (الاهوار)، وحفيد احد ملوكها ربما، والرئيس المهاب لتحالف قبائل كلدو آرامية كبيرة وقوية ومتحصنة بقلاعها في جنوب "بلاد سومر واكد" منذ القرن التاسع قبل الميلاد وكانت قد قدمت اليه من شبه الجزيرة العربية في الأصل على الاغلب. فقد سارع هذا القائد الكلداني الى اعلان نفسه حاكما لمنطقة قومه أولاً، ثم وسع سيطرته لتشمل معظم الاقاليم المجاورة قبل ان يقود حربا ضد الآشوريين اسفرت عن فتح عدد من مدن بلاد الرافدين الرئيسية لا سيما الوركاء ونفر وبورسيبا وسيبار قبل استيلائه على بابل العاصمة الجنوبية للامبراطورية الآشورية والتواقة الى الاستقلال من قبل منهيا وجود تلك الامبراطورية في جنوب العراق تماما. وامام تفاقم ضعف الإمبراطورية الآشورية نجح نبوبلاصر باحتلال اشور العاصمة القديمة للامبراطورية الاشورية والتي كانت مركزا دينيا مقدسا كما احتل عاصمتها نينوى ثم بــلاد الــشام لمـا كانت تـشكله مـن اهميـة اقتـصادية واستراتيجية لبابل مهاجما القوات المصرية فيها مرغما المصريين على الانسحاب من كل المنطقة والاكتفاء بإثـارة الفـتن والاضـطرابات ضد البابليين فيها وبتحـريض الـدويلات المحلية ومنها مملكة يهـوذا على التمرد كلما امكن ذلك، مـا دفـع نبوبلاصر الى ارسال ابنه نبوخذ نصر الثاني على رأس حملة عـسكرية تكللت باحكام الــسيطرة علــى المنطقـة والقضاء على مملكة يهوذا واخذ ملكها وعدد كبير من قادتها اسرى الى بابل.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top