لطفية الدليمي
ليس كتاب (رفعة الجادرجي: حياة غنية حافلة بالانتاج) الذي نشرته دار المدى عام 2021 هو الكتاب الاول الذي كتبته زوجته بلقيس شرارة بشأن بعض الجوانب السيرية من حياة المعمار العراقي الراحل رفعة الجادرجي؛
فقد سبق لها أن نشرت كتاباً بعنوان (هكذا مرّت الايام) ونشرته دار المدى أيضاً، وضمّ تفاصيل شخصية أكثر من التفاصيل المهنية والانشغالات الفكرية لرفعة الجادرجي. لن ننسى بالطبع مشاركة بلقيس شرارة زوجها في الكتاب المشترك (جدار بين ظلمتين) الذي تناوبت فيه بلقيس مع زوجها حكاية بعض جوانب حياة كل منهما في الأيام التي قضاها رفعة معتقلاً ومن ثمّ سجيناً في العراق. جاء الكتاب الاخير ليكون تجميعة من آراء وكتابات الجادرجي المتناثرة في كتبه المنشورة؛ وبالتالي يمكن وصف الكتاب على أنّه تذكرة بأعمال الجادرجي وتحفيز للقارئ غير المطّلع على فكر الجادرجي وفلسفته في الحياة والعمارة ليبحث أكثر ويقرأ باستزادة في المصادر الاصلية.
كتبتُ غير مرّة أنّ العمارة – ومعها الفنون التشكيلية – كانت بوّابتنا الحقيقية إلى الحداثة؛ ومن هنا أهمية معرفة الدور الطلائعي الذي لعبته العمارة في تشكيل حياتنا الثقافية العراقية والعربية. ربما سيكون مثيراً لو عرفنا أنّ بعض المنظّرين الحداثيين زاوجوا في كتاباتهم، وبــبراعة مشهودة لهم، بين الحداثتين الادبية والمعمارية. من هؤلاء، على سبيل المثال، تشارلس جينكز Charles Jencks الذي توفّي قبل سنوات قليلة.
شهدت بغداد منتصف خمسينيات القرن الماضي نهضة معمارية متفجّرة؛ إذ أنّ المداخيل النفطية المتزايدة التي وجّهت حركة مجلس الاعمار نحو المشاريع الستراتيجية دفعت الحكومة العراقية لطلب خدمات أعاظم المعماريين العالميين (فرانك لويد رايت، والتر غروبيوس، لو كوربوزيه،،،،،). وجد رفعة نفسه - وهو لمّا يزل شاباً متفجّراً بالطموحات وعائداً من كلية هامر سمث البريطانية بعد إكمال دراسته فيها – في خضمّ هذا الدفق المعماري المبشّر بإنطلاقة نهضوية هائلة. إنّ دراسة حياة رفعة الجادرجي والتفكّر الهادئ في تفصيلاتها المتشعبة على الصعيدين الفكري والمهني إنما هي دراسة لإنطلاقة الحداثة في العراق – تلك الحداثة التي آلت لاحقاً إلى الوأد في قاع الاصوليات المحلية والمستوردة.
ثمّة جانب آخر في حياة رفعة الجادرجي يستوجب الاشارة. رفعة ليس معماراً فحسب بل فيلسوف معماري من الطراز الاوّل، وإذا ماقرأنا مؤلفاته العديدة (دور المعمار في حياة الانسان، في جدلية وسببية العمارة، شارع طه وهامرسمث،،،) فسندهشُ لقدراته الفلسفية من جهة، وبراعته في تعشيق العمارة مع المناشط الانسانية والمعرفية الاخرى. لغة رفعة في مؤلفاته متفرّدة، وطريقة نحته للمفردات العربية مقترنة بجماليات خاصة به. مثلاً هو يكتب عن (الكلتشريات) ويقصد بها الثقافات Cultures. لماذا لم يكتبها ثقافات؟ واضحٌ أنه قصد بكتابة مفردة كلتشريات صياغة جمالية ومفاهيمية لم يشأ لها أن تحيل إلى مفردة (ثقافات) الشائعة. هكذا يجب أن نقرأ رفعت الجادرجي: قراءة متأنية مدققة تتابع كل التفصيلات الصغيرة وتحاول قدر استطاعتها كشف المخبوء مما يجول في عقله. أظنّ من المناسب في هذا الشأن أن أشير إلى حقيقة غائبة عن كُثرٍ من العراقيين والعرب المحبين لأعمال الجادرجي: عندما إلتحق الجادرجي بجامعة هارفرد عقب مغادرته العراق بعد إتمام إلتزاماته بمشروع التطوير الحضري لشارع حيفا عام 1982 إنضمّ إلى قسم العمارة. هذا شيء يبدو طبيعياً للغاية؛ لكنّ رئيس القسم أخبره ذات يوم أنّ محاضراته ذات طابع فلسفي رفيع قد لايناسبُ طلبة القسم، وأنّ من الافضل أن يكون أستاذاً في قسم الفلسفة، وهذا ماحصل. أمضى رفعة عشر سنوات في قسم الفلسفة بجامعة هارفرد، ثمّ إنتقل بعدها أستاذاً في قسم العمارة والتخطيط الحضري بمعهد ماساتشوستس التقني MIT الشهير الذي لايبعد كثيراً عن جامعة هارفرد؛ فالاثنان يتجاوران في مدينة بوسطن الامريكية. قضى رفعت ست سنوات في المعهد ثم غادره ليقيم في لندن.
سأنتقي في الفقرات التالية من كتاب (رفعة الجادرجي) مقاطع أراها ذات قيمة دلالية خاصة، وطموحي أن تساعد هذه الفقرات في الكشف عن جوانب مهمّة في حياة رفعة الجادرجي والحياة العراقية بعامّة. أتطلّع أن تكون هذه الاستذكارات دافعاً للقارئ ليعود لقراءة مؤلفات رفعة الجادرجي بعقل منفتح وشغف فلسفي لايعرف الخفوت.
(كانت مظاهر الحرب " العالمية الثانية " وماعانته إنكلترا من قصف وتدمير البنى التحتية بارزة في كلّ مكان، كما إستمرّوا في تقنين المواد الغذائية وتوزيع المؤن والاطعمة الرئيسية من السكّر والدهن والمعكرونة شهرياً، وأخبرني رفعة أنه حتى البيض كان من جملة المآكل التي من الصعب الحصول عليها؛ فكانت عائلته تبعث له طبقة من البيض تحوي 30 بيضة لكي تكفيه طيلة الشهر بواسطة الخطوط الجوية العراقية لكنه كان يوزّعها على أصدقائه من التلاميذ ولايُبقي له إلّا عشر بيضات....) (ص 46)
(لم تكن علاقة رفعة بأستاذه وينستون ووكر Winston Walker علاقة طالب بأستاذ وإنما علاقة صديق محاور في مختلف مجالات العمارة، كما كان رفعة معجباً بأسلوبه في التدريس. كان يقول: له أسلوب فذ في التدريس؛ فإن وجد الجو ملائماً طالب منا نحن التلامذة الخروج معه إلى خارج المدرسة فيتجوّل معنا في الشوارع والمتنزهات ويأخذ بإبداء الآراء التفصيلية عن كل شيء تقع عليه عينه من كراسي الحدائق إلى ملابس النساء؛ بل حتى إلى أساليب مشي المارة....) (ص 49)
(وبعد بضعة أشهر من تعيينه جاءه شخصان أثناء الدوام الرسمي وألقيا القبض عليه، وسيق إلى دائرة الامن ومن ثمّ إلى معسكر الرشيد، وقضى شهراً في الموقف بتهمة أنه كان في إنكلترا منتمياً إلى الحزب الشيوعي البريطاني، وهي تهمة ملفقة؛ فلم ينتمِ رفعة طيلة حياته إلى منظمة حزبية، بل حتى أنّ بعض أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي عندما عاد من إنكلترا طلبوا منه أن ينتمي إلى الحزب فأخبرهم أنه يفضّلُ ألّا ينتمي إلى أية جهة سياسية، وظلّ مستقلاً في موقفه طيلة حياته....) (ص 72)
(كنتُ في كثير من الاحيان أترك مقرّ عملي وأذهب إلى أحد الخانات القديمة لأختلي فيه مع نفسي، وغالباً ماكنتُ أذهب إلى جامع " القبلانية " لأنسى هناك المنازعات التافهة والمعارك الوظيفية التي كانت تضجّ بها شعبة الهندسة في دائرة الاوقاف......) (ص 75)
(كانت إستراحة القهوة تبدأ من الساعة الحادية عشرة حتى الحادية عشرة والنصف صباحاً، وهي فترة الاجتماع بالمعماريين وبعض المقاولين في المكتب " الاستشاري العراقي "، كما كانت فرصة لتبادل آخر المستجدات المحلية والعالمية إن كان في مجال السياسة والفكر والرياضة إضافة إلى الاخبار الاجتماعية والثقافية........ كان رفعة يجلب القهوة من الخارج، كما أدخل أكياس الشاي الانكليزية التي كان يجلبها عند عودته من سفره، وأصبح تقليد استراحة القهوة يترك آثاراً إيجابية عند جميع المشاركين......) (ص 87)
(مرّ في تلك الاثناء المعمار الدانماركي يورغن أوتزن في بغداد ليومين ليتابع سفره إلى أستراليا، وطلب التعرّف على رفعة؛ إذ كانت دار السفارة الدانماركية ملكاً لعمّ رفعة " رؤوف الجادرجي " حيث أقام فيها أوتزن..... فالتقى به رفعة ودعاه إلى دارنا، وعندما سافرنا إلى الدانمارك دعانا للإقامة في داره لمدة أسبوع، وتوطّدت العلاقة بيننا...) (ص 114)
(كان رفعة الجادرجي المؤسس الحقيقي والعقل المفكّر والقوة الدافعة للجمعية البغدادية. كانت الجمعية البغدادية تجربة رائدة في العراق. لم تكن نادياً أو مؤسسة إجتماعية فحسب بل جمعت كل شيء. في الجمعية أصبح بالإمكان وللمرة الاولى مشاهدة السينما العالمية كاعمال فسكونتي وبرغمان وجان رينوار، وفي الجمعية أصبح بالامكان مشاهدة موسيقى الصالة والرباعيات الوترية لهايدن وموزارت وبيتهوفن، وفي الجمعية تمكن البغداديون من الاستماع إلى روائع المقام العراقي...) (ص 137)
(الليبرالية لاتدخل البلد إلى أن يصير مجتمعاً مدنياً ونحن " العراق " مجتمع أهلي. كلام الليبرالية في العالم العربي كلام واهم، الليبرالية تجيء فقط مع المجتمع المدني وعندما يعتبر الفرد نفسه مواطناً. نحن رعية. الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي، أو الانتقال من المجتمع الاهلي إلى المجتمع المدني عملية صعبة للغاية.....) (ص 164)
(لولا انفجار السكان لكانت الارض أجمل وأكثر إنسانية... أنا اريد لكلّ شخص حديقة. ماهي حياة الانسان؟ هل هي أكل وعبادة فقط؟ الاكل والطعام ضروريان؛ أما الموسيقى والرقص فوُلِدا مع الانسان وهما جزء مهمّ من الانسان. الجهد الحقيقي يتعيّنُ أن يكون على الاستمتاع بالوجود وليس إدامة الوجود فقط... قبل الوفاة يجب على الشخص أن يستمتع بالوجود...) (ص 181)
(كنت أمشي هذه المرة ببطء متأملاً عبث المعيش بين جمهور جاهل وسلطوي، وأخذت أردّد: ماهذا المعيش؟ وماقيمة الوجود لمعيش مرتبك وخائف بين جهلة ووحوش، وإلى متى سيستمر؟ وأخذت أسائل نفسي: لماذا قبِل الشعب العراقي في مختلف عصور تاريخه أن يعيش مترهباً من السلطة وخاضعاً لها.
إنهمك رفعة في تلك الفترة " من حياته في سجن أبي غريب " في كتابة كتابه الثاني " شارع طه وهامرسمث " وخصص وقتاً يومياً للكتابة من الفطور حتى الحادية عشرة صباحاً، بعد ذلك يعود للقراءة فيما يتعلّق بموضوع البحث في العمارة والتنظير، واتبع منهجاً صارماً في تنظيم حياته..... هكذا تلعب الصدف في حياة الانسان؛ فلولا مؤتمر عدم الانحياز لما كنا ندري عدد السنوات التي كان سيقضيها رفعة في السجن...) (ص 190)
(كان رفعة يؤكد دائماً على التمييز بين الاسلام كدين والاسلام كحضارة؛ إذ كتب " هناك تمايز بين الحضارة واللاهوت. يتميز الفكر الحضري بالفكر العقلاني والمادي، والبيئة الحضرية هي التي تؤلف الفكر العقلاني. تمكنت الحضارة الاسلامية من استحداث أشكال متميزة في الدور الاول من تاريخها، أي لغاية القرن الخامس عشر، وبعد هذا تدهورت نوعية الانتاج وأصبحت تقليدية متكررة، وعندا دخلت التكنولوجيا المعاصرة لم تتمكن الحضارة الاسلامية من استيعابها. مردُّ ذلك أنّ استحداث الشكل لايرجع بالاساس إلى دين أو عقيدة بل هو ابتكار فردي....) (ص 201 – 202)
(منذ طفولته كان والد رفعة له اطلاع في علم الانثروبولوجيا.... وحذا رفعة حذوه في هذا المضمار؛ فكان له إطلاع واسع في هذا الموضوع ظهرت آثاره في كتاباته عن العمارة. قرأ كتب كلّ من فرانز بواس Franz Boas، وكتاب الغصن الذهبي The Golden Bough للكاتب جيمس فريزر James Frazer، حيث إطّلع من خلال هذا الكتاب على أصل الاديان والتراث الشعبي. قرأ رفعة أيضاً كتب الكاتبة الامريكية مارغريت ميد Margaret Mead التي إلتقى بها عام 1969 في مؤتمر ديلوس......) (ص 202)
(كانت آخر مرة ذهبنا فيها إلى المطعم في 11 شباط 2020. طلب كأساً كبيرة من البيرة، نظرتُ إليه وابتسم، ورفع الكأس " صحّتكم " وشرب نخب الجميع، كأنه عرف أنّ كأس الحياة بدأت تفرغ وتجف أمام ناظريه ولم يبق إلا القليل. كان يؤمن بالاستمتاع بالحياة، ومعجباً بملحمة كلكامش...... بعد تأمين الانسان للطعام والملجأ ومقام مناسب للهوية وتأمين إدامته سيكون سؤال الذات: وماذا بعد هذا البقاء غير الزوال؟ ولماذا هذا البقاء أصلاً؟..... تستحدث المخيلة في وجودها الدنيوي مفاهيم وآيديولوجيات وطقوساً تسخّرها لدعم قدرات ممارسات الاستمتاع...... قبل ثلاثة آلاف عام من الزمن نجد " ملحمة كلكامش " وقد إختزلت بصورة هائلة العلاقة بين عبثية الوجود والاستمتاع:
إلى أين تسعى ياكلكامش
إنّ الحياة التي تبغي لن توجد
حينما خلقت الآلهة العِظام البشر
قدّرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة
أما أنت ياكلكامش فلتكن بطنك
مليئة على الدوام
وكن فرِحاً مبتهجاً نهار مساء
وأقم الافراح في كل يوم من أيامك
وارقص والعب مساء نهار
واجعل ثيابك نظيفة زاهية
واغسل رأسك واستحمّ في الماء
وأفرِحِ الزوجة في أحضانك
هذا هو نصيب البشرية) (ص 269)
أظنُّ أنّ رفعة الجادرجي عاش حياته مخلصاً لهذه الوصفة الكلكامشية الباهرة، وهو ماتؤكّد عليه كتبه وفلسفته ورؤيته لحياة أرادها ثرية له ولمواطنيه العراقيين؛ لكنّ أساطين السياسة العراقية، مدنيين وعساكر، أضاعوها وأفسدوا حياة العراقيين وحلم عراق – نموذج تتطلّع إليه البلدان الشرق أوسطية، ويكون في الوقت ذاته موضع احترام وتقدير على المستوى العالمي.