TOP

جريدة المدى > سينما > صاحبتي.. الهُوية الجندرية في مواجهة القيود الاجتماعية

صاحبتي.. الهُوية الجندرية في مواجهة القيود الاجتماعية

نشر في: 12 إبريل, 2023: 11:04 م

عدنان حسين أحمد

يحتاج بعض الأفلام الروائية إلى مخرجين شجعان يتجاسرون على منظومة القيم الأخلاقية التي رسمها المجتمع خلال حقب زمنية معينة. فما كان محرّمًا وممنوعًا سوف يُصبح مُباحًا ومسموحًا بعد مدة الزمن،

وما كان منبوذًا ومرفوضًا سوف يغدو مقبولاً ومُستساغًا بعد حين على وفق آلية التطوّر والتغيير الجذري التي تضرب أركان المجتمع وتقوّض مداميكه الثابتة لتستجيب، في خاتمة المطاف، إلى منظومة قيم معاصرة يجترحها أبناء المجتمع الجديد الذي لا يتطلع إلى الماضي وإنما يعيش حاضره كما يراه بأم عينيه، ويتطلع إلى مستقبله الذي ينطوي على الجديد والغريب والصادم. وفيلم "صاحبتي" للمخرجة المصرية الجسورة كوثر يونس هو من هذا النمط الذي يدور في حيّز "المغايرة والاختلاف" في الأقل بدءًا من الثيمة التي تقوم على مبدأ المٌفارقة وما ينجم عن بنيتها الدرامية من شدّ وتوتر على مدار 17 دقيقة، وهي المدة الكليّة للفيلم الروائي القصير الذي خلا من الإسهاب والترهّل وغدا مثل نبتة مشذّبة لا تُحاصرها الأدغال والأعشاب الضارّة، ومرورًا بالتصعيد الدرامي وما ينطوي عليه من مفاجآت، والنهاية الرمزية التي حاصرت البطل في المصعد القديم الذي تعطّل في اللحظة الأخيرة ليكون خاتمة مدروسة تشير إلى أنّ المجتمع بمعطياته الراهنة لا يُتيح لأبنائه أن يتصرفوا على وفق أهوائهم ورغباتهم الفنتازية، ومع ذلك فهم يجازفون ليحققوا شرف المحاولة الأولى.

ينطوي هذا الفيلم على ثيمات متعددة من بينها قصة حب، والهُوية الجندرية، والإحساس بالوحدة، والكذب على الأبوين أو الاستهانة بعقليتهما التي أكل الدهر عليها وشرب من وجهة نظر البنت في الأقل التي ستُدخِل نفسها وأسرتها في دوّامة من التساؤلات والاستفسارات المُحرجة.

تدور أحداث الفيلم زمنيًا في ليلة واحدة فقط في حيّ من الأحياء السكنية الذي يعتمد على نظام الشقق حيث يذهب علي لزيارة حبيبته سارة مُتنكرًا بهيأة فتاة تُدعى "عالية" لقضاء ليلة معها في أثناء وجود أهلها في البيت من دون أن يعرفوا أنّ هذه المتنكرة هي "علي" وليست "عالية"!

حينما يدخل "علي" مُتخفيًا بزي فتاة لا يلفت انتباه والديّ سارة على الإطلاق فكل ما فيه يُوحي بأنه فتاة جاءت لكي تُكمل المشروع الدراسي مع صديقتها سارة فتدخل مباشرة إلى غرفتها وتبدأ في الحديث عن الصعوبات التي واجهتها في حمل الحقيبة النسائية التي لم تعتد عليها وقد سقطت غير مرة من كتفها، كما أنّها لم تلفت نظر البواب الذي صدّق أنها فتاة بحيث سألها:"رايحة فين يا آنسة؟" ومع ذلك فإن سارة تترك بعض لمساتها على وجهه حيث تضع اللون التركوازي فوق جفنيه وكأنها تعمّق الجانب الأنثوي لكي تبعد شكوك والديها. وحينما يتحمّس لتقبيلها تطلب منه الانتظار قليلاً لكي يناموا خصوصًا وأنّ الأم قد جلبت لهما بعض البطيخ الذي يطرّي القلب على حد قولها بعد أن انتبهت إلى أنهما منهمكتان بالمكياج وشؤون التجميل الأخرى أكثر من انهماكهما بالمشروع. تبدأ سارة بمشاكسته فينزعج من إيغالها في السخرية حينما تسأله إن كان قد تضمّخ بعطر أمه كما نبهتهُ إلى أن لمساته باتت تشبه لمسات النساء وكأنه تلبّس بهويته الجنسية الجديدة عندها يغضب ويطلب مغادرة المنزل لكنها ترجوه أن يُخفض صوته ويتريث قليلاً لكي تتكلم معه وتضع الأمور في نصابها الصحيح بعيدًا عن جو المزاح والسخرية الذي وجد نفسه فيه، فهي تمازحه ولم تقصد الاستهانة به لأنها تحبه من أعماقها ولا تريد الوصول إلى أبعد من حدود المداعبة المُستحَبة. لقد شعر "علي" بأنها تتحكّم بكل شيء وبدأت تسخر منه منذ أن دخل منزلها الأمر الذي يدعوه لأن يستل سيجارة لكنها تمنعه من التدخين خشية أن يسبب لها مشكلة حقيقية مع أبويها فتتوسل إليه أن يدخنها في الحمّام لكي لا يترك رائحة في الغرفة لكنه ما إن يلج إليه ويغسل وجهه من الماكياج حتى يأتي والدها الذي يريد أن يقضي حاجته فتخبره سارة بأنّ "عالية" قد دخلت لتوها كي تستحم ولكي تؤكد هذه الكذبة الصريحة فهي ترشدها بأن "الميّة السُخنة على اليمين". ولكي تزيد المُخرجة من جرعة التوتر فإنها تركت آثار قُبلة "علي" على خد "سارة" الأمر الذي يثير انتباه والدها ويسألها عن هذه القُبلة المطبوعة فلا يحرى جوابًا الأمر الذي يدفعها لأن تفرك صفحة خدها ولا تنجح في إزالتها لكنه يخرج في نهاية الأمر من الحمّام متلفعًا بروب سارة متأففًا من الموقف المُحرج الذي وضعتهُ فيه أكثر من مرة. لم يقتصر الشك على الوالد فقط وإنما تعداه إلى الأم التي سألت عن السبب الذي دفع ابنتها لأن تقفل باب غرفة النوم فتتذرع بأن الأمر كان عاديًا وغير مقصود وأن "عالية" ماتزال نائمة وأنّ أمامهما متسع من الوقت لأنها ستطلب سيارة الأوبر وتذهبان معًا إلى الجامعة. وقبل أن تغادرا المنزل يضعنا الأب أمام انعطافة جديدة تُوحي وكأنه اكتشف السر حينما يطلب من ابنته سارة أن تبحث له عن نظارة القراءة بينما يوجه بعض الأسئلة إلى "عالية" ويخبرها بأنه لم يرد أن يحرجهما وكأنه اكتشف لعبة التنكّر فنحبس أنفاسنا كمشاهدين حينما يقول:"تبقي خاطئة إذا تصوّرت أنا مش واخذ بالي. يا بنتي أنتِ لسه صغيرة على موضوع السكاير ده. البنات الحلوين زيّك مابيشربوش سكاير اتفقنا"! تتداعى ذاكرة الأب فيستعيد صورة لامرأة تشبهها اسمها ماجدة كانت تضع نفس الدرجة من أحمر الشفاه ويقول لها:"لو عُزت أي حاجة قوليلي وأنا مش هقول لحد على موضوع السكاير ده". ثم تتناسل الذكريات في ذهنه فيسأل ابنته:"مين الفتاة الحلوة دي؟ هل شفتها من قبل؟ فيأتي رد ابنته:"دي صاحبتي من زمان! وهي تعني بالتأكيد:"ده صاحبي من زمان"! فيرد عليها:"دي بنت أخلاق محترمة جدًا". تبْرع المخرجة كوثر يونس في خلق نهاية مدروسة وإن شابَها بعض الغموض المُستحب حيث تنزل "عالية" لوحدها في المصعد الذي يتعطّل في نهاية المطاف ولا ينفتح في الطابق الأرضي الأمر الذي يجعله ينسى هويته الجندرية كأنثى متنكرة ويتحول إلى "علي" القوي الذي يحاول فتح الباب الحديدي الثقيل للمصعد متناسيًا مظهره الأنثوي الخادع.

أفادت المخرجة كوثر يونس من توظيف أغنية الراب الشهيرة التي ذاع صيتها في عالمنا العربي لأنها تخترق المحرّمات وتكشف عن بعض القضايا المسكوت عنها مثل تناول المخدرات أو البوح الصريح بالرغبات الجنسية المكبوتة التي تظهر في مثل هذه الأغنيات أو اللقاءات النسوية الخاصة التي ترى فيها الحقيقة من جوانبها الأربع حيث تقول الأغنية:"ستي قالت لي البنات بيلبسوا فساتين / أمي قالت لي البنات ميلعبوش في الطين / و خالتي التي ترتدي الخمار / قالت لي غني براحتِك بس هتروحي النار / بس أنا أبويا مقاليش / فأنا هأعمل الصح و أشرب حشيش". تنطوي هذه الأغنية على آراء متعددة للجدة والأم والخالة وحتى الأب الذي لم يقل شيئًا لكن الراوية هي التي قررت أن تعمل ما تراه مناسبًا حتى وإن كان خطأً أو خطيئة في نظر المجتمع. لا يكتمل المنحى الميتاسردي للأغنية ما لم ننتقل إلى المقطع الثاني الأكثر جرأة وصراحة في هذه الأغنية الجريئة التي تقول:" عالَم مفيش في دماغها غير الجواز و الـ... / صيني و دهب و ملايات و الستاير كرانيش/ أوعي مرة تباتي برا أو تتأخري في مرة / أوعي لا البوّاب يشوفك و متتجوزيش". فالبوّاب هو الوسيلة الدعائية لنشر الأخبار الإيجابية والسلبية التي تقرّر مصائر الكثير من النساء في عالمنا العربي لكنّ بوابنا هذه المرة كان معطوبًا ولم يميّز الهوية الجنسية للمرأة التي كانت رجلاً في واقع الحال!

لابد من الإشادة بالممثلَين اللذين تناصفا دور البطولة وهما سارة التي جسدت دورها "إلهام صفي الدين"، وهي للمناسبة ابنة شقيقة الفنانة إلهام شاهين التي نفّذت مشهد القُبلة بجرأة أعادت إلينا أمجاد أفلام الستينات والسبعينات قبل هيمنة الردة الظلامية التي جعلت القُبلة والعِناق في خانق السينما غير النظيفة؛ هذا التوصيف المشلول الذي ينتمي إلى الحقبة السوداء من تاريخ الوطن العربي. كما شاركها في البطولة مارك حجار الذي قَبِل بشجاعة تأدية دور المرأة بسلوكها وحركاتها الأنثوية الناعمة التي أقنعت البواب ووالديّ سارة معًا ونجح في تأدية دوره الإشكالي بحرفية يُحسَد عليها حقًا. بقي أن نشير إلى أن المخرجة كوثر يونس هي ابنة الدكتور والمخرج وأستاذ سينما الطفل مختار يونس، الرئيس السابق للمعهد العالي السينما الذي سبق وأن تناولته كوثر في فيلمها الوثائقي الأول "هدية من الماضي" وتألقت فيه حيث احتفت بعرضه صالات السينما المصرية لستة أسابيع متتالية وهذا نادرًا ما يحدث مع فيلم وثائقي. جدير ذكره أن فيلم "صاحبتي" عُرض في الدورة 79 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، ونال جائزة التحكيم الخاصة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لعام 2022م، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان كريتيل الدولي لأفلام المرأة لسنة 2023م.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مهرجان البحر الأحمر السينمائي يكشف عن الأفلام المشاركة في مسابقته الرسمية للأفلام الروائية
سينما

مهرجان البحر الأحمر السينمائي يكشف عن الأفلام المشاركة في مسابقته الرسمية للأفلام الروائية

جدة/ خاص بالمدىكشف مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي عن الأفلام المشاركة في مسابقة البحر الأحمر للأفلام الروائية لهذا العام، وذلك خلال مؤتمر صحفي عقد اليوم في مقر المهرجان الجديد جدة التاريخية. وتضمنت القائمة كوكبة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram