TOP

جريدة المدى > عام > مُخْتَارَات : العِمَارَةُ عند الآخر : تَصْمِيماً وتَعْبِيرًاً هِشامُ مُنير

مُخْتَارَات : العِمَارَةُ عند الآخر : تَصْمِيماً وتَعْبِيرًاً هِشامُ مُنير

نشر في: 19 نوفمبر, 2023: 09:28 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

ارتبط اسم المعمار “هِشامُ مُنير” (1930) مع حدث إرساء احدى تنويعات المنجز الثقافي بالمشهد العراقي، وهي عمارة الحداثة؛

 

التى شكلت نماذجها المصممة، (وتشكل الآن) خيرة شواهد البيئة المبنية المحلية. كما ان انجازه الابداعي، عُدّ دوماً، بمثابة اضافة فنية شديدة التميز. بيد أن أهمية “هِشامُ مُنير” المهنية لا تقتصر ولا تتأسس على هذا الجانب الابداعي ، وأنما هي تتمظهر، أيضاً، بكونه “معلماً” قديرا للعمارة. هو الذي ساهم مع زملائه العراقيين الآخريين في تأسيس اول مدرسة معمارية عراقية عام 1959. وانخرط في العملية التدريسية استاذا لها (واحيانا رئيساً لادارتها)، منذ نشوءها وحتى الثمانينات. وعلى امتداد تلك الفترة، أهل هشام اجيالاً من المعماريين العراقين، هم الآن عماد النهضة المعمارية للبلد ، ولكثير من بلدان الشرق الاوسط، وحتى بلدان عديدة في هذا العالم الفسيح، حيث يتواجد تلاميذ هشام منير. انهم، ما انفكوا يتذكرون، بامتنان، جهده الدؤوب في ترسيخ معارفهم المعمارية الجديدة وقتذاك، عبر اسلوب تعليمه المميز، المتسم دوماً (كما اعرفه، شخصياً، من مزاملتي له كاستاذ في القسم لسنين) بالايجاز، والوضوح، وسهولة ايصال المعلومة المعمارية، ورصانتها، ومصداقيتها العالية، وجدتها، وبالطبع فائدتها للمتلقي: وهم بالاساس طلبة القسم المعماري في كلية الهندسة بجامعة بغداد.

لكن هذا المثقف، لم يحظ برعاية واهتمام بلده؛ هو المقيم، الآن، بعيداً عنه. والانكى ان الطبقة المسؤولة عن الثقافة الآن، لا تقدر، او في احسن الاحوال، لا تحسن تقدير قيمة ما انجزه “هِشامُ مُنير” وآخرون معمارياً. ثمة جحود غير مبرر، وعدم مبالاة غير مفهومة بالمرة، يبديها عراق اليوم (مثلما، ايضا، ابداها عراق العقود الماضية)، تجاه ابنائه المبدعيين، هم الذين رفعوا من شأن بلدهم عاليا، وارسوا نهضته الحداثية بكل تجليات اجناسها الابداعية المتنوعة. وهو ما يضيف وجعا آخرا الى آوجاع تلك النخبة الابداعية غير المحظوظة، جراء هذا العقوق اللامسوغ، الذي يظهره ذلك “الوطن”، الذي لا يكف عن إنتاج حكاياته المؤلمة وسردياته التراجيدية، التى يبدو انها لا تريد ان.. تنتهي.

ولد “هِشامُ مُنير” في بغداد عام 1930، وبعد ان انهى تعليمه في الجامعة الامريكية في بيروت، درس العمارة في جامعة تكساس في “اوستن”، تكساس، وتخرج منها عام 1953، ونال الماجستير من جامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلوس ، كاليفورنيا سنة 1956، اسس مع آخرين مكتب “هشام منير ومشاركوه” سنة 1959. صمم الكثير من المباني المهمة في العراق ودول الخليج، وحاز ت مشاريع المكتب على المراتب الاولى في مسابقات معمارية، مثل مستشفي في الموصل، مقر نقابة المهندسين في بغداد، غرفة تجارة بغداد، كلية الزراعة في جامعة السليمانية، وزارة العدل، مبنى امانة العاصمة ببغداد، وزارة النفط، مبنى بلدية البصرة، المقر العام للشركة الافريقية العراقية، بغداد، وزارة التجارة، المجمع الزراعي، وغيرها من المشاريع المهمة. احد مؤسسي قسم العمارة في كلية الهندسة / جامعة بغداد سنة 1959، واستاذا في القسم منذ تاسيسه ورئيس القسم مابين 1968-72. مشارك مع مكاتب استشارية عالمية. مقيم، الان، في الولايات المتحدة.

استطاعت عمارة مكتب هشام منير، ان تجترح لها صوتا مميزا، غبّ تأسيس المكتب، في نهاية الخمسينات. وإن يظل هذا الصوت ممتلكا فرادته التصميمية، ضمن المنجز المعماري العراقي المحتدم وقتذاك، بالاصوات المتنوعة والمقاربات التصميمية المختلفة. وان يؤسس له منزلة، جعلته لان يكون واحدا من اهم المكاتب الاستشارية في الستينات والسبعينات وحتى نهاية الثمانينات، عندما تم غلق المكتب في بداية التسعينات، اثر الانتكاسات الشديدة والمؤثرة التى تعرض لها البلد، ابان فترة الحكم الشمولي، وما نجم عنه من غلق تعسفي لمعظم دور الاستشارة العراقية، ذات الخبرة المهنية المرموقة، ليس على مستوى البلاد، وانما على المستوى الاقليمي ايضا.

ثمة معالم محددة، اتسمت بها عمارة مكتب هشام منير. وهذه المعالم تمثلت، اولاً، في اصطفاء اساليب جديدة تُنظّم اجراءات العمل المكتبي، المعنى اساساً في انجاز المنتج المعماري. كما تمظهرت، ثانياً، في خيار العمل وفق تحديدات وضوابط وضعها مؤسسو المكتب، لنوعية ذلك المنتج، الذي يتعين ان يكون ضمن معايير مهنية عالية وشديدة الصرامة، تطمح لان تكون مواصفاتها متوافقة مع المعايير العالمية. ويظل، ثالثاً، المـَعلم البارز لتلك العمارة، متمثلا في تقدم الرؤية الوظيفية، (الوظيفية المشوبة بالعقلانية) على الرؤى الاخرى، والذهاب بجرأة نادرة، باتجاه اجتراح بلاغة تصميمية واضحة، تعكس متطلبات تلك الرؤى بفورمات تصميمة ليست فقط مقنعة، وانما تنطوي على قيمة جمالية عالية.

.. عندما ظهرت عمارة <مبنى الاوقاف> (1961 – 1964) المصممة من قبل مكتب هِشامُ مُنير في “الكرنتينة” عند شارع الامام الاعظم ، لفتت انظار الجميع نحوها، مباشرة، لجهة لغتها المعمارية الفريدة، ومفرداتها التصميمية المميزة الدالّة على ثقافة المكان. وأذكر باني تناولت عمارة هذا المبنى، واشرت الى جديده المعماري في مقال نشر، كما اتذكر، في جريدة “الجمهورية” البغدادية بالثمانيينات. لكني رجعت، ثانيةً، للحديث عن عمارته اللافتة في سنة 2011، موظفا ادوات النقد ما بعد الحداثي في قراءة جديدة لتلك العمارة، التى وجدت فيها اضافة معتبرة الى منتج عمارة الحداثة العراقية.

ادناه مقتطفات من تلك “القراءة” الثانية. وانا، هنا، اربط بين عمارة “مبنى السفارة الامريكية” ببغداد (1955) المصممة من قبل المعمار “خوسيه لويس سيرت” (1902 – 1983) Josep Lluis Sert، وهذا المبنى:

“.. يغوي مبنى ديوان الاوقاف المرء الى قراءة عمارته قراءة تفكيكية، لجهة تقصي ما تخفيه تلك العمارة، وما لم تظهره بصورة مباشرة. لكن علينا، ابتداءً، وتوطئة لذلك، ان نتبنى مقترح الفصل الرمزي بين “نص” العمارة كموضوع Object ، وما يوحي هذا النص من “تناص” Intertextuality ، يشير الى علاقة المبنى بالآخر. وهي علاقة جد ممتعة لناحية رصد عملية “التثاقف” Acculturation ، وفي ذات الوقت، تعقب الافكار والرؤى الخاصة بالآخر، وتأثيرها على “الموضوع” المنظور. وفي هذا الصدد، ينصحنا “بيتر ايزنمان” P. Eisenman، (معمار مابعد الحداثة المشهور)، ان لا نكون سريعي الثقة بقدرة الحضور على كبت “الاثر” Trace وقمعه (بمعناه التفكيكي)، وانما يتعين ان ندرك الاخير، بكونه حضورا للغياب. وهو امر يجعلنا نتساءل عن مرجعيات معمار ديوان الاوقاف، المؤسسة لقرارته التصميمية. يحيلنا مثل هذا التساؤل الى الاستعانة باستراتيجيات “التناص” ومقدرتها على تفكيك “النص” المعماري، والتغلغل في اعماقه، ومن ثم اعاده تركيبه، بحثاً عن المفاتيح الاجرائية الخاصة بالتأثر والتأثير، والتفاعل والتضمين والحوار والتعالقات التصميمية التى تتم على المستويين الدلالي والشكلي، التى يوفرها “التثاقف”، كاحد مضامين التناص. وبما ان الاخير يفسر النص بكونه <تشرب او إحالة لنصوص اخرى>، كما تقول “يوليا كريستيفا”، الناقدة الفرنسية ، الناحته لمصطلح “التناص”، وهو ايضا، لديها، بكونه < لوحة تتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات>، فانه في هذه الحالة يعمل وكأنه حاضنة فكرية، يستقي المصمم منها افكاره التصميمية”.

في ادناه “مستلات” من <مخطوطة> لسيرة ذاتية (كتبها “هِشامُ مُنير”مؤخرا، وأٌطلعت عليها شخصياً)؛ وهي تنقلنا الى زمن الخمسينات، حيث يصل المعمار الشاب “هِشامُ مُنير” الى وطنه بعد ان انهى دراسته المعمارية في امريكا. وفي تلك “المستلات” النصية، يرسم “هِشامُ مُنير” صورة بانورامية، للعمارة في العراق، في استحضاره للمشهد المبني في العاصمة، مستذكراً اسماء المعماريين الممارسيين وقتذاك. انها لحظات، أراها، جد هامة، وجد مثيرة تحتفي بالذاكرة المعمارية وتسرد في سطورها آمال المعماريين الشباب وتطلعاتهم وسعيهم وراء اثراء البيئة المبنية المحلية بنماذج تصميمية جديدة. انها، ايضاً، وثيقة هامة تدلل على بدء ظهور عمارة الحداثة في العراق. فهي بعفويتها السردية تعيد تأثيث تلك “البدايات” بالآمال العريضة، المحملة بمزيج من مزايا الخبرة المهنية وعبق الحداثة المعمارية.

اليكم بعضاً من تلك “المستلات”:

“.. تم في شباط 1957 تعيني في مديرية المباني العامة في وزارة الاشغال وكان يرأس هذه المديرية المعمار حازم نامق خريج جامعة ليفربول إذ كان معظم رواد العمارة من خريجي تلك الجامعة. وكانت أقسام هذه المديرية تنقسم إلى قسمين رئيسين: قسم تصاميم العمارة وقسم الانشاء والخدمات. وكان قسم التصاميم مؤلفاً من ثلاث شعب وتم تنسيبي الى الشعبة الثالثة التي كان يرأسها في تلك الفترة المعمار رفعت الجادرجي (خريج هامر سميث) وكان يرأس كافة شعب التصاميم المعمار والمخطط الدكتور نعمان الجليلي وهو خريج مصر”.

“.. صحبني الزميل المعمار ناصر الأسدي في جولة واسعة للاطلاع على بغداد بعد غيابي عنها لعشر سنوات والتعرف على معالمها العمارية. وكان يشير إلى الأبنية المصممة من قبل مهندسي عمارة عراقيين واسمائهم. وكانت الأبنية البارزة التي اطلعت عليها من أعمال نزار علي جودة وزوجته ألين (Ellen)، وكانا من خريجي عام 1946 من جامعة هارفرد (Harvard)، هي مبنى الهلال الأحمر في العلوية والكلية الامريكية في المنصور والتي اصبحت فيما بعد ثانوية المنصور للبنات، وكان تصميماً مرناً يحوي فضاءات واسعة. كما أطلعني على مبنى بارز كان في شارع جانبي صممه عبد الله احسان كامل خريج ليفربول وهارفرد وبناية أخرى في ركن شارع الجمهورية كانت مسابقة اشترك فيها عبد الله احسان كامل مع قحطان المدفعي وهو بنك الرهون. كما أشار إلى مبنى متعدد الطوابق على شارع الرشيد لمدحت علي مظلوم خريج ليفربول وكذلك إلى بعض أعمال قحطان عبد الله عوني خريج بيركلي كاليفورنيا. وكانت جميع هذه الاعمال تشير الى إبداعات تعكس تلك الفترة بمؤثراتها ومحيطها والتقنيات المستخدمة في تلك الفترة. وأطلعني على فندق في شارع الرشيد ذي سلم عريض لم ندخله وكان من تصاميم جبرائيل خمو والدكتور محمد مكية لعل اسمه كان السندباد (..الفندق المعني اسمه «ريجنت بالاس» (1954)، بشارع الرشيد، في حين فندق السندباد يقع في الجهة المقابلة (الغربية) المطلة على النهر، خ. س.) وتصميم لفرع مصرف الرافدين في منطقة الميدان من قبل المعمار رفعت الجادرجي. وسألته إن كان قد تعرف على هؤلاء الرواد أو زار مكاتبهم فنفى ذلك».

“.. التحقت في بداية سنة 1958 بمكتب المعمار مدحت علي مظلوم وبعد قيام ثورة 1958 وجراء تغيرات حدثت قرر فجأة ترك العراق سنة 1959 والذهاب للعمل في الخليج ولا أعرف إذا ما كانت الأسباب سياسية أم أن الخليج كانت فيه ثورة بنائية وله فيها علاقات كما يبدو ... وقررت تكوين مكتبي باسم هشام منير ومشاركوه (Hisham Munir & Associates). وشعرت بعد اطلاعي على الأعمال السائدة في تلك الفترة أن أمامي مجالاً للتصدي لهذا التحدي مدفوعاً بما يقوي قناعتي بأن هناك ضرورة لتطوير التقنيات والالتحاق بتطوراتها الجارية في العالم مع أهمية الحفاظ بطريقة مبدعة وخلاقة على الطابع الخاص المستوحي من المحيط والتراث وليس النقل الحرفي لتلك المعالم التي ابتدعها أجدادنا معبرين عن فترتهم الزمنية والمكانية التاريخية الغنية”.

“..وكنت واثقاً من إنني سوف أحقق ما أنا مقتنع به. فكانت أول فرصة مشجعة هي مسابقة تصميم وإنشاء مستشفى ذي 500 سرير في مدينة الموصل سنة 1959 اشتركت فيها المكاتب القائمة في تلك الفترة وربحنا الجائزة الأولى وكلفنا بالعمل وأنجزناه. وفي سنة 1960 كانت هناك مسابقة لتصميم مقر نقابة المهندسين في حي المنصور وربحنا مرة ثانية الجائزة الاولى وكلفنا بالعمل الذي أنجزناه كذلك”.

“... إن العناصر المكونة لمشاريعي تشمل عوامل أساسية تحقق خلق أجواء مشجعه للشاغلين لكي يبدعوا في أعمالهم وفعالياتهم. ويتحقق ذلك بالتنسيق بين القوى المؤثرة الخارجية والداخلية والبيئة المحيطة وبأهمية التجاوب للمتطلبات المناخية لما يتميز به العراق من جو حار واستثمار حركات الشمس لخلق ضلال مؤدية الى تكوينات نحتية عمارية تؤكدها الضلال، وهي استيحاء للتصاميم المحلية التي يبرز فيها الطابق الاول ليضلل تحته ويبرز السطح بأبعاد أكثر ليضلل الجميع. وكانت تحقيقاً لطموحاتي لأن أكون قوة تساهم في الإبداع منسقاً بين التقنيات الحديثة قبل التقنيات الرقمية مع المضي في تصاميم مشاريعي العمارية النحتية”.

“.. إن أهمية دور المعمار عند تصميم الفضاءات والمكان وتفهمه لمراحل تطور التصميم بعلاقته بتكوينها خارجاً وداخلاً يفوق طموح الجماليات التي تكونها العمارة. فقد أثبتت العلوم العصبية وعلم النفس الحديث ببحوثها ودراساتها وتطبيقاتها في تصاميم الابنية وفضاءاتها على نشاط وإبداع شاغليها بصورة جوهرية تأثر الفضاء بالقوة الخارجية والبيئة المحيطة ومدى الاستجابة لها بما يساند خلق تلك الفضاءات وانجاحه ومنها بصورة ومستوى مهم عوامل المناخ وجعلها عاملاً تكوينيا منسقاً متمماً لتلك الفضاءات ترجمتها في عمارتي النحتية المعمارية».

* استفدنا في كتابة هذة < الحلقة> من دراسات لنا سابقة مكرسة للمعمار.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

معضلة الصداقة الفكرية واقترانها بالحب

علي طوفان: البصير.. يعكس الواقع الاجتماعي والارث الثقافي للمكان، فهو يشبه العراق

ثرفانتس مؤاخِذًا

في مهرجان الخريف.. أعمال تجمع بين التعبيرية والتجريد والسريالية

ريتشارد فورد: "أنا أكتب لأن الكتابة تجعلني أكثر ذكاءً "

مقالات ذات صلة

في معرض(انتباه): ثلاث رؤى تثير الانتباه
عام

في معرض(انتباه): ثلاث رؤى تثير الانتباه

حيدر عودةمنذ سنوات لم نشهد في –بغداد- تحديدا أية محاولة لتقديم تجارب تشكيلية تثير الانتباه أو من شأنها الدفع بالعروض والتجارب غير التقليدية إلى مساحات أكبر في التصادم مع الواقع وعرض رؤى جديدة. في...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram