اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى:حين يقول اللون حكايته

باليت المدى:حين يقول اللون حكايته

نشر في: 11 ديسمبر, 2023: 11:37 ص

 ستار كاووش

في كل متحف جديد أحاول أن أن أعيش التجربة الجمالية بكل تفاصيلها، إن أدخل في تفاصيل وأسرار الأعمال الفنية، أجرب التماهي بين الأروقة المليئة باللوحات، حتى أشعر كإني قطعة سكر تذوب في قدح شاي، فأصبح في النهاية جزء من هذه الأماكن التي تزهر فيها اللوحات كما يتفتح الورد في الحدائق. مازلتُ أتنقل بين قاعات متحف كنستهاله بمدينة هامبورغ،

حيث توقفتُ وسط احدي القاعات الواسعة ونظرت الى السقف الزجاجي الذي يسمح بدخول الضوء الطبيعي لداخل المتحف، وقد إشتهرتْ فكرة هذه السقوف بالمتاحف خلال القرن التاسع عشر، حيث لم يُفضل وقتها إستعمال المصابيح أو الشموع الغازية، لأجل حماية الأعمال الفنية من تأثيرات ذلك، لذا لجأت المتاحف للسقوف الزجاجية والنوافذ الكبيرة لغرض ادخال الضوء الطبيعي. مع ذلك فإن هذا الحل الجمالي والعملي قد أصابته بعض المشاكل مع مرور الزمن، بسبب الأمطار والظروف المناخية المختلفة، فصار لزاماً أيضاً أن تعمل المتاحف على ايجاد حلول ومعالجات تتزامن مع التطور التكنلوجي والاضاءة الحديثة. وهذا ما فعلته بلدية هامبورغ مع هذا المتحف، حيث مضى المختصون بخطوات التجديد التي مازالت قائمة وستستمر لسنوات قادمة دون توقف. حتى اللون الأبيض للجدران قد تغيره الى لون رمادي مريح للنظر، تتخلله أحياناً بعض درجات الأزرق والارجواني الفاتح، حيث يتلائم كل جدار مع نوعية اللوحات المعروضة.

كان همي الكبير هو الوصول الى مجموعة من اللوحات التعبيرية، لكن قبل ذلك بقليل إستوقفتني لوحة (مدام هارلوت) التي رسمها رينوار في أوج عظمته الانطباعية سنة ١٨٨٢، وفي هذه اللوحة قد بدا ثوب المرأة المزخرف كإنه إستعادة لتلك النقوشات التي كان رينوار يرسمها في صباه حين كان يتدرب في إحدى ورشات صنع البورسلين، وقد جعلت منه تلك الممارسات المبكرة ملوناً له مكانة عظيمة بين الانطباعيين. في هذه اللوحة ذات التكوين المتماسك والمؤثر، نَقَلَ رينوار الإنطباعية من رسم المناظر الطبيعية الى فن المتاحف، حيث كان يريد أن يبقى فنه الى الأبد. أترك الملون العظيم وانتقل الى القاعة التعبيرية المزدحمة بأعظم ما قدمه الرسم بداية القرن العشرين أقف أمام واحدة من لوحات كاندينسكي التي تعتبر إحدى محطات انتقاله من التعبيرية الى التجريد، حيث إختزل الشخصيات الى بقع ملونة ولم يبقَ من البيوت سوى لطخات فرشاة عريضة، فيما صارت الأشجار خطوط بسيطة دون تفاصيل، هنا يقول اللون حكايته وتتحول التدرجات الى نوع من الموسيقى. وبجانب كاندينسكي ظهرت لوحة أميل نولده التي رسم فيها رجل وامرأة في احدى مقاهي برلين، ورغم إن الصمت هنا يُخيم على المشهد، لكن اللون هو الذي يقول الكثير، حيث استعمل نولده الألون هنا بشكل مباشر دون خطوط خارجية، كغالبية لوحاته التي لا نرى فيها خطوطاً تحدد الاشكال، فاللون عنده هو سيد اللوحة. على الجدار المقابل، عُلقت لوحة كريخنر الشهيرة التي رسم فيها نفسه مع موديل. تجلس المرأة في عمق اللوحة فيما يقف الرسام أمام حامل الرسم ممسكاً بفرشاته العريضة ومرتدياً معطفاً طويلاً مخطط بالبرتقالي والأزرق، كإشارة رمزية وتهكمية للزي العسري عند صعود المد النازي. وقريباً من هذه اللوحة عُلقت واحدة من أعمال التعبيري العظيم ماكس بيكمان، والتي يظهر فيها رجل وامرأة في لحظة حميمية، وعلى جانبيهما قطة وببغاء، حيث رسم المشهد بخطوط سميكة داكنة تعيدنا الى فن الحفر الألماني. في هذه اللوحة تتجسد قوة التعبيرية الألمانية وعظمة وتأثير أعمال بيكمان.

قبل مغادرة هذه الصالة، إنبثقت أمامي لوحة كإنها الشمس، إنها جوهرة الرسم التعبيري، بل هي الباب الذي أدى الى التعبيرية، انها لوحة (فتيات على الجسر) للفنان ادوارد مونخ. تأملت هذه اللوحة وتقنيتها فعرفت مباشرة بأنه قد رسمها دفعة واحدة وخلال وقت قصير، هكذا وضع ألوانه مباشرة وبسرعة كي لا يُضَيِّع التعبير ولا يفقد حساسية المشهد، وقد وصل مونخ هنا الى أقصى درجات الاختزال سواء بالمساحات أو الألوان، ولو حذفنا بعض التفاصيل الصغيرة من اللوحة لصارت تجريدة تماماً. هنا تقف ثلاث فتيات صغيرات على الجسر، إثنتان تنظران الى البعيد وقد رسمهما الفنان من الخلف، فيما الثالثة تلتفت نحونا، أو تنظر الى جهة الرسام، ممسكة بقبعتها الصفراء التي تتدلى من يدها وتجعل التكوين مذهلاً. المناخ العام هنا موحش كغالبية أعمال مونش، بل يثير الكآبة، وتموجات الألوان في عمق اللوحة تمنح قوة وتوازن لهذا العمل. الجسر يمتد نحو البعيد، فيما الفتيات بـثيابهن الملونة بالأخضر والأحمر والأبيض تحولن الى علم يرفرف فوق الجسر. شكرتُ أصدقائي التعبيريين، وأنهيت جولتي في المتحف وسط هذه الروائع والكنوز التي منحتني رغبة كبيرة في العودة الى مرسمي للشروع برسم مجموعة من اللوحات الجديدة. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

طلب 25 مليونا لغلق قضية متهم بالمخدرات.. النزاهة تضبط منتحل صفة بـ"موقع حساس"

أسعار صرف الدولار في العراق

محاولات حكومية لانتشال الصناعة العراقية من الاستيراد.. هل ينجح الدعم المحلي؟

اكتشاف مقابر جماعية جديدة في الأنبار تفضح فظائع داعش بحق الأبرياء

فوائد "مذهلة" لممارسة اليوغا خلال الحمل

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

تعديل قانون الأحوال الشخصية دعوة لمغادرة الهوية الوطنية

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: نائب ونائم !!

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

العمودالثامن: إضحك مع الدولة العميقة

 علي حسين تهلّ علينا النائبة عالية نصيف كلَّ يوم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والصحف والفضائيات، ويتعاطى العراقيون جرعاتٍ مسكنةً من التصريحات التي يطلقها بعض النواب، حيث يظهرون بالصورة والصوت ليعلوان أن المحاصصة...
علي حسين

كلاكيت: عشرة أعوام على رحيل رينيه

 علاء المفرجي في الذكرى العاشرة لرحيل شاهد عصر الموجة الفرنسية الجديد، التيار الذي شكّل حدثاُ مفصلياً في تاريخ السينما ألان رينيه الفرنسي الذي فرض حضوره القوي في المشهد السينمائي بقوة خلال تسعة عقود...
علاء المفرجي

نحو هندسة للتوافق التنموي

ثامر الهيمص وليكن نظرك في عمارة الارض، ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد، واهلك العباد ولم يستقم امره الا قليلا. في...
ثامر الهيمص

ضجة التّماثيل.. كَوديا بعد المنصور!

رشيد الخيون أقام ديوان الكوفة بلندن(1993) أسبوعاً عنوانه "التُّراث الحي في حضارة وادي الرّافدين"، ففاجأنا دكتور بعلم الأحياء، معترضاً على إحياء "الأصنام"، وبينها كَوديا. لم نأخذه على محمل الجد، حتى كسرت "طالبان" تمثالي بوذا(مارس2001)،...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram