إخلاص المالكي

احمد المهنا 2012/12/03 08:00:00 م

إخلاص المالكي

بالسياسة. هكذا كان آباؤنا يوصوننا. خذ حقك بالسياسة. وهم يعنون الحوار والمرونة واللطف. كان هذا تعبيرا دارجا في العراق. وهو ينم عن تقدير جيد لـ "السياسة"، لأنها تعني التصرف بأخلاق، والمجادلة بالحسنى، واحترام النفس وتقدير الآخر. بالسياسة يفرق الإنسان عن الحيوان الذي يأخذ حقه بيديه، لأنه لم يوهب عقلا.

وحين أذكر لأخوة عرب وصية الآباء تلك، يبتسمون مشككين، أو يتضاحكون ساخرين، لارتباط السياسة العراقية في أذهانهم بالسحل. ولهم بعض الحق وليس كله. فليست كل السياسة في تاريخ العراق الحديث"حيونة"، تقوم على القوة العضلية. لا أبدا. واذا اعتبرنا الأنظمة التسلطية والدكتاتورية عضلية، لأنها تعتمد على الجيش والشرطة بالدرجة الأولى، وأحيانا بكل الدرجات، فقد كان هناك الكثير منها في كل البلاد العربية، لا في العراق وحده.

ولكننا انفضحنا، وانوضعنا بالصورة، منذ عام 1959 عندما كانت التظاهرات تخرج وهي تهتف "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة". وكان بعض المتظاهرين يحمل حبالا بالفعل. وبعضهم الآخر لف الحبال حول الرقاب وسحل. ولما كان نظام عبد الكريم قاسم مكروها من البلاد العربية المتأثرة بالناصرية ومن "الدوائر الإمبريالية" في آن، فقد قامت الدعاية الاقليمية والدولية بدورها في تثبيت صورة "العراقي السحِّيل" في اذهان "المجتمع الدولي".

وهناك مشكلة ثانية كرست تلك الصورة. فكل حاكم جاء بعد 1958 رفع شعار "جئنا لنبقى". الرؤساء الضباط الأربعة ثم خصوصا "الفيلد مارشال" الخطير صدام حسين. وخمستهم صعدوا السلطة وانزلوا منها بالقوة. واليوم جاء الدور على المالكي. هو الآخر "ميريد ينطيها". وهو الآخر أحاطت الشبهة ولايته الثانية. الأخوة في العملية السياسية، وبمعونة المحكمة الاتحادية العليا، و"الضغط العالي" الايراني، تدبروا له البقاء في منصبه، رغم فوز "القائمة العراقية" في انتخابات 2010 .

ولعل ذلك التعطيل لإرادة الشعب، أعطى دفعة جديدة للتدهور في السياسة العراقية. ولاشيء يعكس الذروة التي بلغها هذا التدهور مثل لغة المالكي ضد خصومه، ومثل "سياسته التوسعية" في خلق الأعداء. والخصم بلغة المالكي هو أحد هذه الأشياء: ارهابي، ميليشياوي، فاسد، متجاوز على الدستور، متآمر. وهذه الاتهامات تضيف مصداقية، أو صدقية، الى الانطباع الخالد عن العنف في السياسة العراقية. أو عن "اللاسياسة" في السلوك العراقي.

والحق أن الرجل يصلح لصحافة الإثارة أكثر منه للسياسة. فهناك حدة وفرقعة وشِقشِقة تهدر ولا تقر في كل خطبة من خطبه. وهذه أشياء نافعة للعناوين والمانشيتات الصحفية. ولكنها ضارة بالسياسة. إن مراس السياسة يعلم المرونة واللياقة. ولكن الرجل على مر الأيام يزداد فظاظة وشراسة. والمصيبة ان خزان العراق لا ينقصه العنف لفظا أو عملا. بل ان "السياسة" هي بالذات ما ينقصه. ينقصه المزيد من الحكمة والمجاملة والإبتسامة والتي هي أحسن للوصول الى ما هو أحسن.

ان جذر كلمة السياسة في العربية هو السُّوس. وهذه الأخيرة تعني الطبع. ويبدو أن طبع المالكي أمري وليس حواريا. سُوسُه حاد. وهذا ينفع منصبه العسكري كقائد عام للقوات المسلحة أكثر منه لرئاسة الحكومة. فالسياسة حوار في المقام الأول. لكن الحاكم قد لا يجد نفسه مضطرا الى الحوار الا اذا وجد قوى فاعلة تفرض عليه ذلك مثل الأحزاب والإعلام الحر والقضاء المستقل والنقابات وأثرياء وسوق حرة. وليس لدينا من كل ذلك شيء يعتد به عدا الكرد، فوجه دباباته نحوهم.

الرجل، على كل حال، مخلص للتصور الذي يحمله الآخرون عن العراق.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top