الملامح التشكيلية العشرة في تجربة أمين شاتي الفنية

الملامح التشكيلية العشرة في تجربة أمين شاتي الفنية

احتضن المركز الثقافي العراقي بلندن المعرض الجديد الذي انضوى تحت عنوان "سيّد القصب" للفنان التشكيلي أمين الشاتي، وقد ضمّ المعرض ستة عشر عملاً فنياً مختلفة الأحجام والثيمات، وقد نُفِّذت بتقنيات متنوعة توحي للمتلقي وكأنه يقف أمام أعمال سيراميكية أو نحتية تجمع بين اللوحة التشكيلية والريليف الناتئ، أو أعمال تركيبية "Installations"، أو لوحات عادية منفذة على سطوح تصويرية كالخشب والكانفاس وما إلى ذلك. لا شك في أنّ الفنان أمين شاتي مبهور بالحضارات الرافيدينة المتعاقبة كالسومرية والأكدية والبابلية، ولكنه يجد نفسه في تراثها البصري والأدبي قبل كل شيئ. من هنا انبثق اهتمامه الأول بالمنجزات الفنية كالرسم والنحت، والأدبية كالشعر والملاحم والأساطير القديمة، وحينما يتعاطى مع أية أسطورة فإنه لا يبحث عن التطابق بقصد المشابهة، وإنما يهدف إلى نقل روحية الأسطورة بخطاب فني حديث يتلاءم مع الزمن المعاصر الذي نعيش فيه. قبل الخوض في تفاصيل هذا المعرض الذي تأسس على بحث فكري عميق استغرق الفنان سنواتٍ طوالا لابد أن نشير إلى الملامح الرئيسية للعمل الفني الذي ينجزه أمين شاتي على وفق رؤيته التشكيلية المعاصرة التي تهدف إلى إيصال خطاب مرئي ينطوي على جماليات متعددة قد تبدأ من الألفية الثالثة قبل الميلاد، وربما لا تنتهي في اللحظة الراهنة، وإنما ترحل إلى مستقبل قادم لا نعرف عمقه الزمني الطويل. لعل الملمح الرئيسي الأول في غالبية الأعمال الفنية تقريباً هي العيون المفتوحة على سعتها، والتي يمكن أن نصطلح عليها بالمهيمنة البصرية الخاطفة للأنظار، فلاغرابة أن توصف عيون النساء العراقيات الجميلات بالعيون السومرية لأنها واسعة وكبيرة إلى الدرجة التي تهيمن فيها على مساحة الوجه الذي يكون غالباً أبيضَ مستديراً. ربما يكون الفنان أمين شاتي مسحوراً بهذه المعطيات الجمالية، لكنه يبحث عن شيئ آخر وهو الدهشة الكامنة في العيون المفتوحة التي تتيح لنا أن نغوص في تجاويف هذه الأعمال الفنية، ونرحل زمنياً إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، ونصادف ربما كلكامش وهو في طريقه إلى البحث عن عشبه الخلود. لقد أمسك أمين شاتي بالعيون المدهوشة التي تريد أن تكتشف العالم وتتعرف عليه من كثب. لا يقل الملمح الثاني أهمية عن العيون الكبيرة، فالقَرن قد يأخذ أشكالاً متعددة في لوحة أمين شاتي الفنية، فتارة يُصبح هلالاً، وحيناً يتحوّل إلى زورق أو "مشحوف" على وفق التسمية العراقية الشائعة. ربما تكون "الفيغرات" السومرية أو البابلية هي الملمح الثالث الذي يؤسس لبنية اللوحة، ويمنحها عنصر الموازنة الذي يتيح للفنان أمين شاتي أن يؤثث فضاء العمل الفني الذي يتكون غالباً من متن وحاشية. لابد من التنويه هنا بأن شاتي يعتمد على أكثر من مذهب فني في بناء لوحته، فالفيغرات تفقد جانباً من أبعادها التشخيصية لتستقر على البُعد التجريدي الذي يتوخاه الفنان، وربما يوغل في بعضها ليصل إلى البُعد السوريالي كما في لوحة "قصة حُب في العالم السفلي" التي تنطوي، في حقيقة الأمر، على الملمحين الرابع والخامس، وهما الملمح البكتوغرفي "التصويري"، والملمح الرمزي الذي يضم عدداً كبيراً من الرموز، والإشارات، والخربشات المحفورة على الجدران القديمة، وأكثر من ذلك فإنه كان يضمِّن لوحاته الجانب الحروفي الذي يعمِّق من فحوى اللوحة، ويمنحها أبعادا بصرية جديدة ومضافة. تشكِّل الخرز الفيروزية غالباً أو الحمراء في بعض الأحيان ملمحاً سادساً في الأعمال الفنية لأمين شاتي، وأن هذه الخرز تمنح فضاء اللوحة إيقاعاً لونياً مغايراً يعزز تقنية التضاد اللوني التي يشتغل عليها في كثير من الأحايين. أما الملمح السابع فهو رصانة اللوحات وتماسكها ويكفي أن نشير هنا إلى ثلاثية "كلكامش"، "أنكيدو"، "الشيوخ المنتظرون" عند سور أوروك. تلفت "القيثارة السومرية" انتباه المشاهدين، ذلك لأنها تتوسط المعرض وكأنها عمل نحتي يمكن مشاهدته من الجهات الأربع، وهو عمل تركيبي بامتياز يحيلنا ملمح ثامن ومغاير في الأعمال الفنية لأمين شاتي.

إن ما يمز هذه القيثارة هو الرأس السومري الذي استعاض به عن رأس الثور الذي يرمز إلى القوة، كما أضاف إلى القيثارة رجل وامرأة يقابل أحدهما الآخر في وضع عاطفي حميم وقد غلّف رأسيهما بورق ذهبي لافت للانتباه يتناسق مع الرأس السومري المذهّب. على الرغم من أهمية هذه الإحالة الفنية أو الثقافية عموماً، إلاّ أن انشغال أمين شاتي كان كامناً بالموسيقى العذبة التي تنساب من هذه الآلة الموسيقية السومرية والبابلية على وجه التحديد، لتدلل على وجوه شعب يمحض الفن بعضاً من اهتماماته المتعددة.

يهيمن الكولاج كملمح تاسع في لوحات وتكوينات أمين شاتي، فقد يأخذ شكل الحبال التي تثبِّت القرون أو "المشاحيف" أو الأهلّة، وربما تنزاح منها لتشدّ الإنسان الرافيديني إلى أرضه المعطاء، وحضارته العريقة، وثقافته الموغلة في القدم.

أما الملمح العاشر والأخير فهو الملمح اللوني الأبيض على وجه التحديد الذي يحيلنا إلى الأهوار العراقية التي تبدو وكأنها مدىً أبيضَ في ساعتي شروق الشمس وغروبها، والقارب الذي يبدو مستقراً على رؤوس "الفيغرات" الثلاثة، إنما هو يتهادى على مياه الهور ليقلّنا إلى الحياة السومرية المزدهرة آنذاك.

في ختام ها المقال لابد لنا أن نتوقف قليلاً عند التقنيات اللونية التي يستعملها الفنان أمين شاتي فهو يمتلك ما يشبه الخلطة السحرية التي لا يبوح بها لأحد ومع ذلك فهي تتكون في الأعم الأغلب من الألوان الزيتية المتنوعة الممزوجة بحبيبات الرمل النظيفة، والغُراء، وذرّات الرصاص التي تُشكِّل في خاتمة المطاف عجائن لونية سميكة، هذا إضافة إلى العناصر الكولاجية التي أشرنا إليها بضمنها الخرز، والحبال، والأوراق الذهبية وما إلى ذلك. بقي أن نقول بأنّ هذا المعرض يشكل علامة فارقة في التجربة الإبداعية للفنان أمين شاتي الذي يجمع في رؤيته التشكيلية بين الجانبين الكلاسيكي والمعاصر.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top