سحر الكتب..الدهشة المنتظرة من القراءة

سحر الكتب..الدهشة المنتظرة من القراءة

نمتلك الكتب بأنواعها كافة، قوة سحرية على قارئها، وحالما يتسلمها من يد البائغ تبدأ عملية التعرف على الكتاب، بدءاً من ألوان الغلاف والخطوط الداخلية والعنوانات، تقليب الصفحات، والعينان تلاحقان الكلمات وتتابعان الصور داخل دفتي الكتاب، عندئذ تنشأ علاقة سرية منبعها القلب، أو نوع من حوار داخلي ترافقه بهجة اللقاء والتعارف، ربما يقول القارئ: هذا هو الكنز الذي أبحث عنه.

ساعتها يمكن أن يعلن عن إعجابه بجمال اللغة المتيسرة في ما يقرأ من صفحات وسطور.. هل جزالة اللفظ والمجاز الأدبي في أي كتاب هو سر من أسرار اللغة ، أم اللغة هي مستودع الأسرار التي ينبغي لنا إماطة اللثام عن حقيقتها كلما توغلنا في القراءة وما ننتظره منها أن تقدمه لنا ؟ في عالم الكتب علينا أن نكتشف كم نحن غافلون عن مسرات نرى أن الكتب قادرة على أن تمنحها لنا كلما انطوت نفوسنا وعقولنا على المزيد من الحب للكتب أو الإيمان بقيمتها واعتبارها، وسوف يتعمق حوارنا الداخلي معها ومع موضوعاتها وما تحمله الصفحات من عناوين داخلية، عشرات المرات هيمنت فيها الكتب على روحي وعقلي، أتأملها ملياً، بدءاً من العنوان وكم باستطاعته أن يقدم لي إغراءً باقتنائه، ثم أنظر نوع الخط، وأقلب الكتاب بين يدي ثانية وثالثة وعيناي تحدقان به بنظرة العارف بأسرار الكتب وما  تنطوي عليه من مفاجآت، يا لهذه الكتب التي بدت نائية عني وأنا أبحث عنها حتى تمكنت من العثور عليها بواسطة صديق قديم يعرف معنى لهفتي للكتب أو نداء جاء من أحد عشاق جمع الكتب: هل مازلت تبحث عن اللامذكرات-كتاب أندريه مالرو؟

هل تمكنت من استعادة (لعبة الكريات الزجاجية) من سارقها؟.. صديقك العزيز؟

تلك هي الأسئلة التي تؤجج الخاطر وتحرك جذور اللهفة للحصول على الكتب الثمينة.. ترى هل عملية البحث عن الكتب هو من أجل المعرفة الخالصة حقاً أم من أجل التملك الشخصي الذي لا يقل إغراءً من الوصول إلى كنز الأسرار وفك طلاسم المعرفة إذا وجدنا طلاسم ومغاليق، قد تجذب العديد منا كقراء إلى مواصلة الدرس، قبل كل شيء ينبغي أن يتبادر إلى أذهاننا أن الشيء الذي نريد الحصول عليه قد يصادف ويبحث عنه غيرنا في اللحظة ذاتها، ومن الجائز أن يقع ذلك الشيء الذي نراه ثميناً بأيدي الغير، عندئذ يصبح من الصعب عدم التفكير في الفوز به، وقد يتضاعف إحساسنا بخسارته ونحن نعلم أن الكتاب (كشيء ثمين) لا يسلم نفسه لقارئه إلا إذا قرر القارئ تسليم نفسه للكتاب، فالأخير ليس بدعة أو سلعة أو مجموعة أوراق تحتوي على سطور من الهرطقة والفوضى، بل يتكون الكتاب من مؤلفه، عقله وطبيعة تفكيره بل ورؤياه التي تقوم عليها فصول الكتاب.. أرجوك لا تصدق حكاية موت المؤلف، رولان بارت صاحب وجهة النظر هذه مازال يعيش بين ظهرانينا من خلال مؤلفاته التي تعلمنا الشيء الكثير منها، عن النص والمتن، عن الحكاية والأسطورة، وكذلك الكتابة بدرجة الصفر ومعنى الحياد في الكتابة والتأليف أو الكتابة البيضاء، تصور وجهة النظر هذه تزامنت مع ظهور جماعة روب غرييه أو مجموعة الوسط، وتسمى أيضا المدرسة الشيئية في الأدب، في تلك الفترة برز أفضل كتّابها ميشيل بوتور وناتالي ساروت ومارغريت دورا ،إضافة إلى روب غرييه.. مؤلفات هؤلاء تأخذنا إلى حالة من التفكير الجاد وتأمل أسلوبها ومعالجاتها للحدث أو كيفية خلق المشهد.

وليتذكر بعضنا، قصة روب غرييه التي ترجمها سركون بولص ونشرها في مجلة (العاملون في النفط) وكان عنوانها: (رجل على الساحل) .كان ذلك في مطلع الستينات، كانت هذه القصة دافعاً قوياً لحوارات مطولة بين عدد من المثقفين والأدباء والقصاصين في تلك الفترة، وذلك لغرابة أسلوبها والنهج الذي اتبعته القصة في معالجة الحدث، علماً  أنه لا يوجد ثمة حدث واضح يمكن أن يعتمده القارئ بتحليل نص: رجل على الساحل.

حين نبتاع كتاباً يصبح محتواه وشكله ملكاً لنا ونحن الذين نقرر متى تبدأ رحلة القراءة والاكتشاف والدخول في عالم جديد، والكتاب بعد تعارفنا عليه، قد نجده قارة شاسعة وليس مجرد كتاب، له شكل ولون، ومحتوى، هو عالم من الأجناس والأشياء والحكايات وربما المواضيع المختلفة.. في كتاب اللامذكرات يخوض الكتاب الفرنسي الشهير أندريه مالرو في عوالم نحن بحاجة لمعرفتها عن قرب، والكتاب ليس رواية على غرار البؤساء أو مدام بوفاري، إنما هو سياحة فكرية وتأمل في الخبرة والتجربة الإنسانية العريضة والعميقة للمؤلف أندريه مالرو الذي اشترك في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب الجمهوريين ،وكذلك ذهابه إلى الصين ولقائه الشهير بالزعيم الصيني ماوتسي تونغ، كما قاتل النازيين الألمان بعد احتلال عاصمة بلاده – وقام بإحدى الرحلات التاريخية لاكتشاف سد مأرب ،كما زار الهند والتقى بنهرو أحد قادة كتلة الحياد الإيجابي .واللامذكرات نص طويل في الزمان والمكان ويحتوي هذا النص على معظم مستلزمات الديمومة والخلود.

بالطبع ليس كل الكتب تفعل فينا ذلك السحر أو الطيف الباهر، مع ذلك كثيرة هي الكتب التي تبعث في دواخلنا المزيد من المسرة والحبور.. كتب بحثنا عنها طويلاً وكتب أخرى بحثت (هي) عنا لنلتقطها من بائع منزوٍ مع مكتبته الصغيرة في زقاق في الباب الشرقي، دلنا عليه الشاعر والمترجم حسين حسن، قادنا بثقة أنا وزهير الجزائري طمعاً في أننا سوف نحصل على أفضل الكتب بأسعار زهيدة، كنا أنا وحسين حسن غير قادرين على شراء أي كتاب، أما زهير الجزائري فقد كان محظوظاً بأسرته ميسورة الحال، لذا استطاع (ساعتها) أن يبتاع كتاباً عن الماركسية، بينما ادخرنا نقودنا أنا وحسين حسن إلى أمسية منتظرة نمضيها في اتحاد الأدباء، فقد تبين أن ما نحمله لا يكفي لشراء الكتب الثمينة التي عثرنا عليها في تلك المكتبة المنزوية، التي عاودنا زيارتها في أيام لاحقة، لالتقاط أفضل الكتب التي توفر لنا متعة القراءة ودهشة الاكتشاف.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top