بناء المدينة فـي العراق – البنى التحتية

بناء المدينة فـي العراق – البنى التحتية

 من المفيد كثيرا ً تشبيه هيكل المدينة ( Urban Structure  ) بجسد الكائن الحي ولايدخل هذا في قبيل التشبيه الادبي، بل ان أوجه المقارنة واضحة وكثيرة وطريقة عمل المدينة وأجزائها تماثل بشكل واضح ومتعدد لطريقة عمل الجسد البشري باجزائه وأنظمته. هذه الدراسة المقارنة لها أيجابياتها ومنافعها الكثيرة ولعل أهمها هي منح هيكل المدينة والذي هو في نظر الكثيرين بمن فيهم الباحثون فيه أنه هيكل مادي جامد أو في أحسن حالاته ماكنة معقدة خاضعة لقوانين الميكانيك، هذه الصفة الحيوية المتحركة والمتحسسة لتغيرات لاحصر لها والتعامل معه على هذا الاساس هو ماتحاول الدراسات البيئية المعاصرة ( Environmental Psychology ) المتخذة من الدراسات السايكولوجية قاعدة لها أضفاءها على المفهوم الحضري للمدينة وتغيير المفهوم التقليدي المتعارف.
 وعندئذ يبدو طرح هذا السؤال أو التساؤل منطقيا ً لامبالغة فيه وهو كيف يمكن لهيكل المدينة المادي هذا ( Material  Object ) أن يكون وعاء لنشوء وتطور المجتمع الحي ( Living Object ) القاطن فيه؟ وهل يمكن للمجتمع ان ينشئ حياته ويطورها في بيئة ميتة لاحياة فيها؟
 وكما أن للكائن الحي جسده وأعضاءه المكونة له بالاضافة الى النظم العاملة في ما بينها والتي تخلق التواصل والترابط بين هذه الاعضاء وتمنحها صفة الجسد الواحد، فكذلك أن للمدينة هيكلها وأجزاءه المكونة له ومن ثمة النظم  الحضرية ( Urban systems ) التي تربطها وتمنحها صفة كونها مدينة واحدة وليست مجرد أجزاء حضرية متناثرة فاقدة للنظام.
 فما الذي يحدث للكائن الحي حين يفقد أحد أعضائه سوى أن يصاب بالعوق ( Disability )، غير ان الامر أشد خطورة حين يفقد هذا الكائن أحد نظمه العاملة كله أو جزءا منه كالجهاز الهضمي أو العصبي أو التنفسي، فانه حينذاك يصاب بالشلل ( Paralysis ) الجزئي أو الكلي. وكذلك الحال في ما يخص المدينة فقد يصاب هيكلها الحضري بخلل ما حين يفقد احد أجزائه – كأن يكون الحي السكني فاقدا ً لاحد مرافقه المهمة كالمدرسة أو المستوصف – ولكنه خلل يمكن تعويضه من خلال قطاعات المدينة الاخرى، ولكن الهيكل الحضري هذا قد يصاب بشلل فعلي إذا ما فقد أحد نظمه الحضرية مثل شبكة النقل أو شبكة الكهرباء.
 وعادة ما يقسم هيكل المدينة الى قسمين رئيسيين هما الهيكل الحضري ( Urban Structure ) والبنية التحتية ( Infrastructure ) ويوصف الاول بجسد المدينة، والثاني بالنظم الخدمية العاملة فيه. يضم الهيكل الحضري كل الاجزاء المدينية التي تتسم بنوع من الوحدة الذاتية ( Independency ) وأنها قائمة بذاتها كالوحدات السكنية والمرافق الثقافية والسياحية والادارية وغيرها، في حين تتسم البنية التحتية بنوع من التبعية ( Dependency ) وأنها أجزاء خدمية يرتبط وجودها بوجود الهيكل الحضري، اما تسميتها بالبنى التحتية فلا يدل بشكل قاطع على كونها بنى مقامة تحت مستوى أرض المدينة فقط، بل أن جزءا ً كبيرا ً منها يستقر فوق هذا المستوى مثل شبكة الشوارع وشبكة سكك الحديد والجسور بالاضافة الى الشبكات الاثيرية كالهواتف والانترنت والراديو والتلفزيون، وكثير غيرها.
 وبالرغم من كون البنية التحتية مجموعة نظم خدمية الهدف منها تأمين حاجات الهيكل الحضري للمدينة الا أنها تبدو غالبا ً أعظم حجما ً وأكثر أتساعا ً من الهيكل الحضري ذاته، كما أنها بالتأكيد أكثر تعقيدا ً منه وأعلى تقنية ً وأكثر مرونة ً وتقبلا ً للتغييرات السريعة وأكبر خطرا ً من الهيكل الحضري نفسه وهذا ما يجعلها تشكل الهدف الاول في الحروب الحديثة.
 والبنية التحتية بدورها تقسم الى نوعين يوصف أو يسمى الاول بالبنية التحتية الصلبة ( Hard Infrastructure ) ويسمى الثاني بالمرن ( Soft Infrastructure )، ويتضمن الاول كل المنشآت الخدمية ذات الوجود المرئي والتي تشارك الهيكل الحضري وجوده الفيزياوي كشبكات الشوارع والانفاق والجسور وسكك الحديد وقنوات الماء والري وشبكات المياه النقية ومياه الصرف الصحي وتصريف الامطار الى ما شابه، في حين يتضمن الثاني المرن كل الانظمة والبرامج والوسائل التي لاتحس فيزياويا ً أو ماديا ً أثناء الاستخدام اليومي للهيكل الحضري والبنية التحتية ولكنها تؤثر بشكل واضح ومحسوس على طريقة عمل هذه الهياكل والبنى ولايمكن الاستغناء عنها بأي شكل من الاشكال والا تحولت عملية أستخدام البنى التحتية الى فوضى إسراف لامنطق فيه وهدر متعمد للاقتصاد وتعطيل لعمل المدينة برمتها وتأخير لتطورها ونموها.
 ولنعد الى تشبيهنا الاول للمدينة بجسد الكائن الحي فإن فقدان عضو ما يصيبه بالعوق ولكن تعطيل الجهاز العصبي مثلا ً يصيبه بالشلل في حين أن وجود هذا الجهاز دون السماح لمرور الاشارات المعلوماتية فيه يصيب الكائن بشلل مؤقت يؤدي فيما أذا تكرر بشكل واضح الى ما يشبه العصاب ( Neurosis  ) " يسمى المرض النفسي، هو أضطراب في الشخصية وهو أضطراب عصبي وظيفي غير مصحوب بتغير بنيوي في الجهاز العصبي، ترافقه في كثير من الاحيان أعراض هستيريا، وحصر نفسي، وهواجس مختلفة." – من موسوعة ويكيبديا -.
 فهل من مدينة من مدننا في العراق لاتعاني من العصاب او هذا الاضطراب النفسي؟ إن نظرة فاحصة وبعين وفكر بعيدين عن التحجر المادي القاصر يمكنها أن تكتشف بوضوح أن  جميع مدننا مصابة بالشلل وبالعصاب، وأن بناها التحتية – النظم العاملة فيها – كلها عاطلة أو مضطربة في عملها. وإذا علمنا أن كل ما يحدث في المدينة ينعكس على سكانها وذلك ما تثبته الدراسات البيئية الكثيرة علمنا أن مدننا وسكانها مشتركون في معاناتهم.
 يتخذ التخطيط المدني والحضري المعاصر من البنية التحتية ومستوى تقنيتها ودرجة كفائتها ومرونة عملها في استيعاب حاجات المدينة المتغيرة مقياسا ً ( Standard ) للمستوى المعيشي لسكان المدينة (Social Living Conditions ) وتطورها ( Evolution ) وديمومتها ( Sustainability ). فما هو المستوى المعيشي لسكان مدننا في العراق؟ وأين تقع مدننا على سلــّم هذا المقياس الحضاري ؟
 لقد توسعت مدننا بشكل مطرد ومضاعف دون أن يكون هناك توسع مواز ٍ في البنى التحتية المرافقة لها، فالاحياء السكنية الان تبنى وفي كل مدن العراق بلا أستثناء بشكل غير مخطط أو مبرمج في مراحله العملية والزمنية، يبنى الهيكل الحضري لهذه الاحياء – وبشكل غير متكامل دائما ً – دون أن يسبقه أو يوازيه إنجاز للبنى التحتية اللازمة له ولبقائه، فاصبح نمو جسد المدينة في العراق تماما ً مثل جسد الكائن الحي الذي يزداد سمنة بإفراط دون أن يكون جهاز دورانه قادرا ً على ضخ الدم الكافي فيه وفي الاجزاء الجديدة التي تصاب بالخمول والخدر في حين يصاب مركز المدينة – قلبها – بالاجهاد المفرط لمحاولة ضخ الدم الى الاطراف دون جدوى. ولقد تحولت عملية توسع المدينة بهذا الشكل الى تقليد متبع لا يمكن إيقافه الى درجة استحال معها التخطيط الحضري المبرمج – او من المفترض هكذا – هو بذاته الى تخطيط فوضوي وإسكان عشوائي. بالاضافة الى ذلك فإن الضغط والتحميل المتنامي بسرعة على مراكز المدن وبالذات الاجزاء التجارية منها دون مراعاة لطاقة البنية التحتية هناك جعل هذه المراكز تصاب بالعجز ( Insufficiency ) والهرم المبكر ( Early Aging ) حتى ليبدو أحيانا ً انها بلغت مرحلة لم يعد علاجها ممكنا ً وانه لابد من استحداث مراكز حضرية أو تجارية جديدة لهذه المدن – في الواقع العملي يمكن معالجة كل مشاكل المراكز الحضرية ولكن بدرجات متفاوته وكلف متفاوته أيضا ً - ، ويمكن ملاحظة هذا الامر بوضوح في شارعي الرشيد والنهر في بغداد، وفي السوق الكبير في النجف الاشرف، وفي سوق التجار في الديوانية وغيرها.
إن عدم معرفة الانسان بقيمة النظم والاجهزة العاملة في جسده – البنية التحتية له -  تجعله يفرط في استخدامها واستهلاكها، أو يهملها فتفقد كفاءتها، وكذلك الحال في ما يخص البنية التحتية للمدينة، ولايقل الامر سوءا ً عندما يكون الافراط في الاستخدام والاهمال لها مصاحبا ً لمعرفة بها وبأهميتها.
 وبعيدا ً عن ذلك فإن هناك جزءا ً من  البنى التحتية مازلنا نغض النظر عنه ونعتبره ترفا ً فائضا ً برغم أهميته وأن هناك مدنا ً قد قطعت أشواطا ً فيه ولقرون، وهي البنى التحتية التي تمنح المدينة جماليتها وديمومتها ونقاء البيئة والهواء فيها وإحياء الهيكل الاخضر لها وتسهيل الشبكات الثقافية والتعليمية والسياحية والتاريخية فيها، بالاضافة الى البنى التحتية التي تؤسس لأنسنة المدينة ( Humanization ) وجعلها قابلة للاستخدام من قبل سكانها باختلاف قدراتهم البدنية حتى المعاقين منهم ( Accessibility ).

*مهندس عمارة وتخطيط حضري

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top