أعز الأماني

احمد المهنا 2012/12/30 08:00:00 م

أعز الأماني

لم تخطر على بالي أمنية بمناسبة العام الجديد أعز من أن يشعر العراقي بأنه ابن العراق، بأن له أبا هو العراق، بأن العراق هو وطنه الذي يأخذ منه ويعطي له، كما يفعل أي بلد طبيعي مع سكانه، وكما يتفاعل أي مواطن مع وطنه.
أعرف أن هذه أمنية كبيرة، وللذين يتشاءمون من الرقم 13 قد تبدو أمنية من أكبر ما يكون، وكذلك للذين "يعانون الأمرَّين" من الواقع، وايضا للذين يعتقدون أنهم "يعرفون الواقع"، و ربما لي أيضا، رغم انني شخص يظن نفسه حرا من سجن التشاؤم والتفاؤل، ويحسب أنه خلق ليعيش، لا ليكبل نفسه بأسْوَدَ التشاؤم أو أبيضَ التفاؤل. أما لماذا قد تبدو الأمنية أكبر من كبيرة حتى بالنسبة إلي فلن أذهب بالأسباب الى الماضي والحاضر، ولا الى المُجريات والتفسيرات، ولكن فقط لِما رأيت وسمعت خلال بضعة أيام من الأسبوع الماضي.
في يوم الجمعة قبل الأخير التقيت على الطريق في لندن صديقا أحبه وأقدره، بل ان له عندي مقام المعلم والأستاذ. قلت له: الاثنين سأكون في بغداد. قال: سلِّم لي عليها وقل لها ان فلانا (وذكر اسمه) كفَّ عن زيارتك. ودعته وانعطفت الى طريق جانبي. بعد لحظة استدرت اليه فلاح لي ظهره وهو يسير بهدوء الى منزله. اجتاحتني موجة حزن. لم يكن هذا الشخص عابرا في حياتي، كما لم يكن عابرا على بغداد. وبقي أحد الأسماء العراقية الكبيرة في المنفى. انه قصة فرد غنية، ورواية ابداع ثرية. ولقد بدا لي وكأن بغداد جرح عميق نازف في صدره، وان ذلك الجرح المؤلم هو الذي تكلم مودِّعا بغداد.
الاثنين، 24 /12، وصلت بغداد. استأجرت تاكسيا من ساحة عباس بن فرناس، سائقها شاب طيب من سكان العامرية. انفتح علي في الحديث. شكرته مع نفسي على ذلك الانفتاح لأن معناه أنه وثق بي. والثقة تقدير نادر من غريب الى غريب في بلاد الشكوك. قال انه لم ينم ليلته الماضية لأن أصوات عجلات عسكرية اقتربت عدة مرات من منزله.
- ولماذا تخاف منها؟
* لأنهم يمكن أن يهجموا في أي لحظة ويعتقلوننا، وكنت أهيء نفسي للهروب!
- ولماذا تهرب اذا لم تفعل شيئا؟
* هم لا يفرقون غالبا بين بريء ومذنب. يعتبرون منطقتنا مشبوهة. وغالبا ما تجري حملات الاعتقال دون تمييز. وقد "أخيس" في السجن اذا قبضوا علي.
لم يكن هذا هو الجزء الأصعب في قصته. فالعدالة هي آخر ما تتوقعه من حكومات هذا الجزء من العالم. الأمَّرُ فيها هو التمييز الذي يرتكبه أبناء الشعب الواحد ضد بعضهم البعض. قال الشاب، وبتفهمٍ أعاده الى "عمايل" الزرقاوي وأمثاله، ان لديه أصدقاء شيعة يحبونه ويحبهم. لكنهم لا ينادونه باسمه. فهو عمر وهم يسمونه عمَّار! وهذا يعني أنهم يقبلون كل شيء فيه عدا ما يذكِّر بمذهبه.
في نفس اليوم خبرني قريبي حسنين، المهندس الزراعي، ان اسمه لا يساعد على التعيين في وزارة الزراعة السنية!
في اليوم التالي لوصولي غرقت بغداد ومدن أخرى بفيضان مطري هزَّ البلاد، وآذى فقراء كثيرين. في اليوم الثالث تحدثت مع صديق إعلامي جاد في الثلاثين من عمره، وقال لي انه فقد كل سبب يدعوه للعيش بالعراق، لكن خيارات الهجرة أمامه معدومة. وهذا عين ما قاله لي صديق عمر في اليوم الرابع!
كم أنا آسف لحديثي عن هذه القصص الحزينة بمناسبة العام الجديد. لكن لعل شفيعي هو أنه بسببها لم تخطر على بالي بالمناسبة أمنية لبلدنا أعز من علاقة صحية بين الوطن والمواطن. وهي أمنية ليست خيالية اذا آمنا بحقيقة ان بلدان الناس هي من صنع الناس. فالأرض مليئة بشواهد الناس الذين وصلوا الى هذه الحقيقة وعملوا بها ولازالوا يفعلون لبلوغ الأفضل. والتطلع الى الأفضل هو ما يجعل التاريخ بلا نهاية.
كل عام وأنتم بخير.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top