عزلات الماغوط وتجسيداتها النصّية

عزلات الماغوط وتجسيداتها النصّية

حاتم الصكر ليست العزلة التي يُنسب إليها محمد الماغوط ، أو تُنسب إليه ذات مصدر ومؤثر واحد ، بل هي ( عزلات ) ارتضاها وسكن فيها وإليها واستراح ، راضياً بأن يقتحمها فضول نقاده وقرائه وتأويلاتهم . هكذا تشخصت في حالة الماغوط الشعرية تلك العزلات وأخذت تجلياتها ومظاهرها الفنية و تجسيداتها النصية ، ثم سرت لتَسِم شخصيته أولاً ، ثم قصائده ونصوصه على السواء .

السيف يكتب والصدر يقرا والزمن يمحو كل شيء محمد الماغوط ( شرق عدن غرب الله)   الغريب / المتمرد /الخائف   يبرز ذلك في ظهوره الحيي واختبائه في بيروت تحت جناح جماعة ( شعر ) التي لم يندرج فيها عضوياً ، أي أن نتاجه لم يكن معبّراً عن رؤية ( الجماعة ) وموقفها من اللغة والبناء الشعري والإيقاع ، وتصوراتها حول صلة بالشعر بالمجتمع والحياة والسياسة ، ورفضها تبعية الشعر لتلك المؤسسات ، وكذلك مقترحها الشكلي والنوعي حول ( قصيدة النثر ) التي صارت مشروع الجماعة المجسّد لرفضها وتمردها وحداثتها .. رضي الماغوط بمقابل ذلك بعزلته داخل الجماعة ذاتها ، فصارت عزلته مضاعفة وذات أغلفة إضافية ، فصار الغريب القادم من دمشق دون شفاعات أو ولاءات مسبقة ( وحيداً ) داخل الجماعة وغريباً لأكثر من سبب : - غربته وظهوره المفاجئ إزاء ألفة الجماعة وتكدسها واصطفافها . - محدودية الأفق المتاح له من قبل- في وطنه – وفضاء الحرية الذي تعيشه الجماعة - تعلمه اليسير والمحدود إزاء معرفة زملائه باللغات ودراساتهم المنظمة - اعتماده موهبته أولا إزاء الحرفة والخبرة والمعرفة التي يتمتعون بها .. - كتابته لنص شعري مختلف معتمد على البساطة والوضوح واللغة الأليفة ، وهو ما أهله للاندراج ضمن شعراء ( الشعر الحر )(1) بالمعنى الانكلو – سكسوني كما وصفه جبرا إبراهيم جبرا وصّنف شعراء هذا التيار – وهو منهم ، وليس ضمن شعراء ( قصيدة النثر ) ذات المنبت الفرانكفوني التي كان يكتبها أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبى شقرا وسواهم ممن كانت اللغة محور تجاربهم ، والصور المحسوسة وسيلتهم لنقل المعنى والإيقاع الشخصي الداخلي(2). لاحقاً سوف تشخّص سنية صالح ملازمة الماغوط للعزلة التي تلت ( غربته ) فترى أنه (لم يخرج من عزلته ، بل غيّر موقعها من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض )(3) .أما في ظني فإن مثلث العزلات سوف يكتمل بوصول الماغوط إلى عزلة الخائف الذي يتهيب العالم ويخشاه رغم إصراره على رفضه وقناعته بغربته عنه . بذلك تكون صفات ( الغربة / الرفض / الخوف ) هي المحرّكات أو المشغّلات الرئيسية لشعره ، والتي سوف يستمر حضورها الضاغط ويتصاعد طوال مسيرته الأدبية ويتسع ليشمل نتاجه غير الشعري أيضا وهذا ما نجده في آخر نصوصه المنشورة ( شرق عدن غرب الله ).(4) العنوان الإلكتروني للمعتزل عنوان النصوص التي وصفها غلاف الكتاب بأنها جديدة يؤكد تلك الصفات التي أثبتناها وأسندناها لشعر الماغوط انعكاساً من شخصه ، ويتيح تحليل العنوان كموجّه قراءة وعتبة نصيّة أن نلاحظ بيسر مظهرها المتحقق في المتون ووجودها الفني في أشعار الماغوط الأولى أيضا عبر دواوينه الثلاثة: حزن في ضوء القمر – غرفة بملايين الجدران – الفرح ليس مهنتي(5) .ويعلل أحد دارسي الماغوط استمراره في الاستمداد من تلك الصفات في شعره اللاحق بأنه حفاظ ((على مستوى أفقي ثابت في مواقفه ، ومستوى متطور في منحاه التصاعدي)) مستشهداً باعتراف ا?ماغوط بالقول((أحس نفسي مطارَدا . إنه إحساس قديم .. مزقت قصائد كثيرة من الخوف)) (6) وإذا تأملنا ( شرق عدن غرب الله ) كعتبة قراءة توجه القارئ صوب مقاصد المؤلف، فإننا سنجد الإقصاء والابتعاد متعمد فيها ، بل هي تجسيد قوي للرغبة في تكريس العزلة التي لا يريد الماغوط أن نفهم فحواها بكونها رومانسية أو هروباً بل هو يحيلنا إلى ما تقدمه التكنولوجيا ذاتها من تكريس للعزلة كمبرر لسكناه فيها وارتياحه لها كمكان مراقبة للعالم ومختبر لإعادة تمثيل مَرائيه ومَشاهِده. ( شرق عدن غرب الله ) هو العنوان الإلكتروني للشاعر كما تقترحه إحدى القصائد(7) ، ولهذا الوجود القصي المنبوذ والمنعزل حضور ثلاثي إذا تتبعنا ما أراده الشاعر وراء اختياره عنواناً . فهو ينبثق من عنوانه الإلكتروني الذي يعبر عن هويته وإقامته ، و يجدر أن نلاحظ هنا أن عنوان النص في الكتاب هو ( هويتي الإلكتروني) وهي أعم من العنوان وأبلغ دلالة، كما أنه يصبح عنواناً للكتاب يسم النصوص كلها ، ويجعلها تنتمي إلى دلالته ومناخه .. فهو ذو دور مضاعف في توجيه قراءتنا ، أي أشد الموجهات قوة ، لأن وجوده الثلاثي - عنوان? للنص وللشاعر وللكتاب- يضاعف العزلة المفترضة والمعبّر عنها بهذا التركيب : ( شرق ) هو جهة تتباعد جغرافياً عن ( غرب ) التي تقابلها في جزء الجملة الثاني ، بينما تتقابل ( عدن ) و ( الله ) كوجودين لا يلمسان أو يتعينان في هيئة معنوية ذات ملموسية، وينعكس ذلك في اصطفاف أو تنضيد الجملتين. ونحن نفترض محذوفات هنا لاستكمال الفراغات فيهما مثل : أقيم ، أو اكتب ، أو أعتزل في مكان شرق عدن أو غرب الله – والجملتان متلازمتان لتكريس- أو مضاعفة - العزلة والإقصاء وربما النبذ إذا وصلنا للمعنى إلى عزلة الخائف ، بينما

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top