قراءة فــي مقولـــة      ذهب الحنـــان

قراءة فــي مقولـــة ذهب الحنـــان

 د. نعمة العبادي *يصعب على أيّ متتبع أو متخصص، أن يعرف مواقع ثنائيات (السبب والنتيجة) و (والأثر والمؤثر)، و( السابق واللاحق)، في تشابك مسارات الحياة ووجوهها المتعددة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ...الخ.

إن هذا التشابك ولد مدارس متعددة كل منها ينتصر إلى أهمية اتجاه من الاتجاهات ،فمنهم من قال :إن الاقتصاد هو محور الحياة وحركتها ،وآخر قال :السياسة هي اللاعب الأساس والجميع يدور في فلكها ،وآخرون يرون الثقافة والفكر هما المؤثر الأقوى ، وهكذا يستمر هذا الجدال بمنطلقات وتقريبات مختلفة ،ولكن الأكيد بين كل هذه الأقوال ،أن هناك علاقة وثيقة ،وترابطاً جدلياً غير قابل للتفكيك أو التحييد بين هذه الوجوه والمسارات. يعيش الناس حياتهم دون أن يلتفتوا كثيرا إلى عمق شبكة المؤثرات التي تقف وراءها وتحركها، ويتآلفون مع نتائج اجتماعية على سبيل المثال هي حصيلة عوامل اقتصادية دون أن يعوا الأسباب الحقيقية الكامنة من ورائها. يوجد مساران يتصارعان فكريا وعمليا ووجوديا منذ زمن طويل، أحدهما يقدم المجتمع على الفرد، والآخر يقدم الفرد على المجتمع ،ويتوسط هذه الرؤى نماذج تحاول المزاوجة أو تقديم صورة متعادلة من الاهتمام. يرى الزائر لبلاد الغرب- بوضوح- برودة العلائق الاجتماعية ،وضعف المسؤوليات التكفالية بين الأفراد وأقاربهم ،ويستشعر بوضوح الانغماس في الهموم الفردية ،ويتجلى ذلك في محدودية التزاور بين الأقارب حتى من الدرجة الأولى ، بحيث يمكن للولد أن يعيش في مدينة واحدة مع والديه ولا يزورهما في السنة مرة واحدة. ينظر أبناء المجتمعات الشرقية (أيام زمان)، إلى مثل هذه العادات والأوضاع الاجتماعية باستغراب واستهجان، ولعل الاعتراض الأبرز الذي كان يوجهه الكثير من الشرقيين إلى المجتمعات الغربية يتصل بالمسائل الاجتماعية وطبيعة الأنساق الاجتماعية في بلاد الغرب. تعيش مجتمعاتنا لحظات انزياح قيمي خطيرة تغادر فيها الكثير من المتبقي القليل من نكهة علائقنا الاجتماعية وصلاتنا ببعضنا ،والتي تمتد عند البعض للشعور بالمسؤولية والتعهد للأقرباء البعيدين ،بينما يشتكي الكثير من الآباء والأبناء والأقارب والجيران من ضعف التواصل حتى في المناسبات الرسمية ،ويكرر الكثير من الناس خصوصا ذوي الثقافة الشعبية مقولة \"ذهبت المحنّة\" ،ويريدون بالمحنّة هنا ،أن المشاعر والأحاسيس والحنان الذي كان معهودا بين الناس ،بدأ يتلاشى ويذهب ،وصار الناس منشغلين  بشؤونهم الخاصة ،ومصالحهم الفردية ،بحيث يعيش الولد بجوار بيت أهله دون أن يتفقد احتياجاتهم ،وينشغل باحتياجات زوجته وأولاده ،وملذاته الشخصية. تطرح مبررات مختلفة لهذا الوضع ،من أهمها تعقد ظروف الحياة ،وصعوبة العيش ،وكثرة المشاغل والمسؤوليات ،ووجود وسائل ومؤسسات يمكن أن تقوم ببعض الأدوار التي كان الإنسان لا بد أن يقوم بها بنفسه، بحيث يصبح الفرد غير مضطر إلا للاقتصار على دائرة ضيقة من المسؤوليات. وفي نفس الاتجاه، أصبح الناس يستعيضون بالوسائل الالكترونية والتقنيات الحديثة عن الممارسات التقليدية التي يؤدون بها مستلزمات علاقاتهم الاجتماعية في أزمنة مضت، بحيث صارت المناسبات تقضى عبر رسائل ( (sms، أو (البريد الالكتروني)، دون الحاجة إلى الزيارات المباشرة، وهكذا شكلت أدوات الحياة الحديثة منعطفا كبيرا باتجاه تركز الفردية. السؤال المهم في المقام:هل ذهب الحنان من قلوب الناس، وأصبحت مشاعرهم باردة ؟ وإذا كان الأمر صحيحا، فلماذا ذهب الحنان ؟وقبل ذلك،هل أن الحنان سلوك اجتماعي يمكن أن يغادره الناس إلى نموذج آخر، أم هو حالة وجدانية ذاتية من صميم الذات الإنسانية ؟وإذا كان الحنان وجدانياً ومن مكنونات الذات والوجود ،ولا يمكن أن يذهب ،فما هو تفسير تبدل طبائع الناس ،واتجاهها إلى الانشغال بالذات كثيرا ،وتركز الأنانية؟ إن هذا الانزياح الاجتماعي الكبير ،والتحول في القيم والمفاهيم ،والمتجلي بوضوح في السلوك العام،يطرح على المتخصصين بالتربية وعلم النفس والسلوك والاجتماع والمفكرين والدارسين بالعلوم الدينية تحدياً جاداً ومهماً ينبغي عليهم مواجهته من خلال الدراسة والتحليل ،والوصول إلى الحقائق الصادقة ،من أجل وضع الحلول والمعالجات. أستمع إلى أحاديث الكثير من الأقارب والمعارف والأصدقاء، وهم يعرضون مشكلة انشغال أولادهم عن شؤونهم، والانكباب على الاهتمام بالزوجات والأولاد، ويحاول كل فريق تبرئة ساحته من أن يكون السبب في القطيعة والجفاء.وتصل الأمور في بعض الحالات ،أن يهجر الولد عائلته تماما لصالح زوجته وأصهاره ،وبالمقابل يسجل البعض على الآباء والأمهات تصرفات تثير الكثير من الغرابة ،حيث يتعامل بعض الأمهات أو الآباء مع أولادهم وبناتهم على أساس المصالح والمنافع وترسم حدود اهتمامهم بأولادهم على أساس ما يصلهم من منافع ومكاسب من هذا أو ذاك من الأبناء والبنات. ليست تلك الحالة هي المظهر الوحيد، بل تتكرر الشكوى من القطيعة بين الأرحام في مجال التواصل والتعهد والترحم، وتشيع حالة الجفاف والغلظة والمادية المستشرية على سلوكيات الأفراد وطبائعهم. قد يقول البعض

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top