خرج من السجن..  ربي كما خلقتني !

خرج من السجن.. ربي كما خلقتني !

القسم الأول كانت الشمس تشرق على مهل ... وضوء النهار يحكم قبضته على الكون الفسيح ... لكن داخل ردهة الرجال في السجن يبدو أن الحال كان مختلفا ، فالأعماق مظلمة والنفوس لا تعرف ضوء  ولا تشعر بصباح ... وسط هذا الجو تلقى الرجل المحترم وصاحب الشركات وا

القسم الأول

كانت الشمس تشرق على مهل ... وضوء النهار يحكم قبضته على الكون الفسيح ... لكن داخل ردهة الرجال في السجن يبدو أن الحال كان مختلفا ، فالأعماق مظلمة والنفوس لا تعرف ضوء  ولا تشعر بصباح ... وسط هذا الجو تلقى الرجل المحترم وصاحب الشركات والعقارات رسالة من زوجته المعروفة في الوسط الاجتماعي ... كاد يطير من الفرحة ... تهلل وجهه وهو يفتح المظروف ... همس لنفسه وهو يتنهد بقسوة ...( هسه جيت عالبال ... طول الفترة الماضية لا حس ولا خبر ! ) لكن قلبه بدأ ينقبض عندما وقعت عيناه على السطر الأول ... تماسك الرجل الذي كان والده ملء الأسماع والأبصار قبل رحيله منذ قرابة العشرين عاما ... بل كان هو نفسه من رجال المهنة المحترمة والاعمال الشريفة في حقل الزراعة الذي توقع له الجميع الظهور والبزوغ والتألق ... لم يكن ينقصه شيء في الدنيا ... المال عنده ... والشهرة.. قفز اسمه اليها من خلال اسم والده ومشروعاته تحقق نجاحا بعد نجاح .... والطريق الى القمة يبدو أمامه سهلا ، ممهدا ، ناعما كالحرير ... لكن (ع) نسي أن الدنيا اذا أقبلت ... ادبرت ، وإذا أينعت نعت ... إن المال ضمن أربعة اشياء لا أمانَ لها ... الزمان وان صفا ، والحاكم وان قرب ، والمرأة ولو طالت عشرتها ... والمال وان كثر ... السطور الأولى من الرسالة كانت تقول .. أرجوك يا (ع) افهمني من البداية ... أنا من طرفي نسيت كل المشاكل التي أشعلت النيران بيني وبينك ... لكن ظهرت في حياتي مستجدات مهمة وعلى قدر من الخطورة والأهمية ... أرجو ان تفهمني دون ان تسيء الظن ... لقد قررت ان ابعث إليك برسالتي هذه قبل ان يصلك تبليغ المحكمة ... ربما يسبب لك بعض الضيق ... خلف أسوار السجن العالية ! توقف (ع) عن القراءة ... أشاح بوجهه بعيدا عن الرسالة ... تلاحقت أنفاسه ... دق قلبه بعنف ... ماذا تقصد زوجته ؟ وماذا تحمل رسالتها ؟ ...  ودون أن يشعر راح شريط الذكريات يجري بسرعة امام عينيه ، يكاد يرى الأحداث ويسمع الأصوات ، يكاد الماضي يعود إلى الحياة مرة داخل الزنزانة التي ينام فيها ، رجعت به المشاهد خمسة عشر عاما إلى الوراء ، حينما كانت الدولة تحمله فوق كفوف الراحة ... لم تكن امرأة تهزه ... لم يكن يعترف بوجود الحب او سطوته او لوعته ... كان كل ما يجيده هو لغة الأرقام والحسابات والدخل الذي يزداد شهريا ... وكانت الإنسانية اضعف مساحة في خريطة شخصيته فقد نشأ مدللا ، يأمر فيطاع ... كل طلباته مجابة بسرعة ... الجميع يصمتون اذا تكلم ... ويرتجفون إذا غضب ... والده المقاول الشهير صاحب العقارات في كل أنحاء بغداد كان يخاف عليه من الهواء الطائر ... وامه التي كانت من سيدات المجتمع المعروفات بجلسات القبول الأسبوعية في دارها الفخم ... علمته ألا ينحني لمخلوق أو يعتذر لإنسان او يعدل عن رأيه حتى لو كان خاطئا .... أليس هو ابن فلان ... الذي جمع ثروته الطائلة بكل الأساليب والطرق من اجل ابنه ؟ أليس هو ابن فلانة التي يخشى الجميع بأسها ونفوذها ودائرة علاقاتها ؟ كانت أمه تدربه على الكبرياء وترسخ في أعماقه ان المال هو الذي يقف مع الإنسان في مواجهة الحياة ويقوي مركزه بين كبار شخصيات المجتمع ! ورغم أن والدته كانت تحكم أباه وتسيطر على أفكاره وكلمتها هي الأقوى والنافذة في مجال الأسرة والحياة ... إلا أنها علمت (ع) كيف يحكم المرأة التي ستختارها له شريكة لحياته من بين بنات مجتمع الأغنياء ... لكن الحياة لم تكن تسير وفقا لرغبات أمه ... مات زوجها فكان أكثر أصدقائه نسوا اسمه بعد فترة وجيزة من انتهاء الحداد ... أسرعت الزوجة الأرملة الى محكمة الاحوال الشخصية تنازلت فيها عن كل أملاكها ونصيبها لولدها (ع) بل انتهزت الفرصة وسجلت العقارات جميعها التي ورثتها من أبيها باسم ابنها المدلل ... إلا ان الدنيا التي كانت صديقة الأمس صارت وبلا مقدمات عدو اليوم ... لم يمض عام واحد وماتت الوالدة ... لم يمهلها المرض الخطر قالت لابنها وهي تحتضر ... افتح الكنتور الخاص بي ... اخذ جميع الذهب والحلي والالماس والجواهر ... احتفظ بها مدى الحياة ... كل هذه الجواهر من النوع النادر .. .اجعلها ذكرى تراني فيها ... كل طخم ستجد صورتي عليه وتشم ريحتي فيها ! ولا تنس ألا تحب في الدنيا غير نفسك ! ووجد (ع) بعد وفاة أمه وحيدا ... القصر الرائع أصبح خاويا ... الحديقة اليانعة أصبحت أغصانها كشواهد القبور ... المائدة التي كانت تجمعه مع أمه وأبيه غطتها الأتربة ... الخادمة المسنة التي ربته هربت من قسوته وكلامه الجارح ... حاول (ع) أن ينشغل بمشروعاته التجارية التي شاركه فيها بعض زملاء الدراسة من أبناء الطبقة الثرية .. وبينما هو مندمج في أعماله ... التقى بسكرتيرة تعمل في احد مشاريعه ... لا يعرف حتى الآن كيف سرقته من نفسه مع لحظة اللقاء الأول ... لم تكن مبهرة الجمال ... لكنها كانت أنثى! كانت مثل قطعة مغناطيس التي تجذب المعادن إليها ... رغم أنها ليست من المعادن النفسية أو الجميلة ! منحته هي بذكاء تحسد عليه حنان الأم ... واستضافته فوق شفتيها يرتوي فإذا به يكتشف انه ازداد عطشا ! أحبها (ع) ولأنه كان ابن حلال أصبح مثل أبيه ... سلمها زمام الأمور .. وادخلها حياته من أوسع الأبواب ... كان أمامها كالمسحور لا يمتلك الاعتراض او المناقشة او حتى التعليق ... جاءت بأقاربها ليشاركه بعضهم ... ويتقلد البعض الآخر وظائف مهمة في شركته الكبيرة ..تزوجها في حفل أسطوري ... قفز بها الى عالم آخر لم تكن تحلم به .. أصبحت تشتري ملابسها وعطورها وأحذيتها من اكبر دور الأزياء والمخازن في لبنان وباريس ولندن ... ركبت سيارة احدث طراز وحملت في حقيبتها اول دفتر صكوك ... وراحت الأيام تجري بسرعة رهيبة ... تغيرت حياة (ع) مائة وثمانين درجة ... قال المقربون منه إن زوجته ... سحرت له ... وقال أقرباء والده ... فلوس أمه تخلصها السكرتيرة المايعة ! وقال أقارب أمه ... (كومي كعدي من قبرك وشوفي ابن بطنك شيسوي) لكن (ع) لم يهتم بكل من حوله ... لا الأقارب ... ولا الأصدقاء ولا الكلام المباشر أصبحت له أسراره الخاصة ... سقط في بئر الإدمان على لعب القمار ... ربما اعتقد أن القمار سيكون سلاحه الوحيد لكي يضمن نجاح غزواته والغارات التي كان يشنها كل ليلة على دولة الأنوثة التي تحكمها زوجته ... كان يتوهم انه احتلها بالفعل حتى يستيقظ في اليوم التالي فيكتشف انه بحاجة إلى شن غارات جديدة ! عاما بعد عام ... الأيام تجري وحكم الزمن سيف على الرقاب ... امتلكت السكرتيرة المجوهرات والحلي الذهبية وتمرغلت في ممتلكات والدته ...  الإمبراطورة السابقة التي محيت ذكراها ولم يبق منها غير صورة صغيرة في البوم الصور العائلية ... بعد سنوات انتبه (ع) الابن المدلل على أنباء الكوارث المالية والصواعق وتقلبات البورصة في العالم.. الشركة أفلست... الديون تراكمت... خاف من الفضيحة... حرر صكوك عديدة بدون رصيد وضمان بنكي.. البنوك والأصدقاء والأضواء انحسرت وتلاشت ... الدنيا التي كانت تحمله فوق أكتافها ألقت به وتنكرت له وسخرت منه ... لجأ إلى زوجته لبيع الحلي الذهبية وقطع الجواهر النادرة التي أخذتها من أمه ... ليسدد بعض ديونه ... لكن زوجته رفضت بشدة ... طالب أهلها بمكاسب لمستقبل ابنتهم ولأنفسهم وان يعطوه بعض المال الذي أخذوه منه حتى يسدد ديونه ويسترجع الصكوك التي استحقت الدفع ... لكنهم تهربوا منه ... أفضل أصدقائه الذين ساندهم في المحن لم ترد هواتفهم .... أخيرا أصدرت ضده أحكام قضائية إما دفع المال أو الحبس ... بحث عن أيه حلول لإنقاذه من الغرق ... لكن باءت محاولاته بالفشل ... ألقت الشرطة القبض عليه وأحيل الى المحكمة وهو مقيد بالقيود الحديدية ... انهمرت دموعه لأول مرة ... أراد ان يصرخ بالشرطي ...

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top