النقد وفلسفة هاملت

النقد وفلسفة هاملت

من السهولة أن نكتشف الكثير من المفاهيم النقدية غير الواضحة وخاصة عندما يتعلق الأمر بتحليل شخصية هاملت، فمثلا مفهوم المعادل الموضوعي الذي اعتمده ت .س . إليوت في تفسيره لمسرحية وشخصية هاملت تجعلنا نفكر بأن عملية الخلق الفني أشبه ما تكون بالعملية الكيمياوية من حيث أنها ليست تعبيراً عن عاطفة الفنان بل هي إحالة هذه العاطفة إلى شيء آخر موضوعي عن طريق العقل الذي هو بمثابة الوسيط الكيمياوي المحول.
فما يؤكده إليوت هو أن العمل الفني يعتبر معادلاً موضوعيا للعاطفة التي يرغب الفنان في التعبير عنها ، ولكن ليس العاطفة نفسها التي  يشعر بها الفنان ، أو هو بعبارة أخرى: خلق شيء يجسم العاطفة ويعادلها معادلة كاملة  بلا زيادة ولا نقصان  حتى إذا ما اكتمل  خلق هذا الشيء أو هذا المعادل الموضوعي المؤَلف من حقائق خارجية، تحققت العاطفة المطلوب إثارتها، وتحققت "الحتمية الفنية" التي تخلق التساوي بين الواقع الموضوعي المحيط وبين الذات الداخلية التي تفرض معادلاً بين الحقائق الخارجية "أي الواقع الخارجي  وبين العاطفة  أو الواقع الباطني".
وهذا هو مفهوم إليوت حول الحتمية الفنية كما يشرحه لنا فرجسون في كتابه (فكرة المسرح)، وما يؤكده إليوت أيضا أن هذه الحتمية هي :
(ما كان ينقص هاملت (الإنسان) الواقع تحت تأثير سيطرة عاطفة ما لا يمكن التعبير عنها  لأنها تخرج في تطرفها عن الحقائق كما تتبدى، فثورته العارمة كانت أقوى من العلاقة بأمه ، وعاطفته كانت طاغية  لا يجد ما يعادلها ولا ما يبررها في الواقع  الخارجي، ولذلك لم يستطع أن ينقلها للآخرين نقلاً موضوعياً يقنعهم فيه بأنه على صواب ، وإنما بقي مرتبطاً بهذه العاطفة ، تؤثر في حياته وتشل إرادته ، وهكذا ضاعت في مسرحية هاملت تلك "الحتمية الفنية" التي تفرض التساوي بين العاطفة  التي في الداخل وبين الحقائق كما تتبدى في الخارج، ومن ثم لم يقع التأثير المطلوب).
وعلى هذا الأساس أكد  إليوت أن شكسبير فشل في أن يوجِد لشعور هاملت معادلات موضوعية وأن حيرته وتردده الهاملتي إزاء غياب  المعادل الموضوعي  لمشاعره هما امتداد لحيرة خالقه أمام مشكلته الفنية أو عدم تطابق الحقيقة الفنية مع الحقيقة الموضوعية أو الواقع الموضوعي. فإذا افترض روبرتسون مسبقاً بأن المسرحية تفتقر للحقيقة التصويرية أو تفتقر إلى ما أسماه ت. س .إليوت بالمعادل الموضوعي، أو أن هناك حيرة  في البحث عن جوهر المشكلة أو أن المشاعر الهاملتية معقدة، فإن مثل هذا يضع النص في غربال لتطبيق المقولات  والمفاهيم النقدية ، وهذا  هو عين القسرية لأنه يضع العمل  النصي  في دائرة ضيقة مما يمنع التفكير به باعتباره عالماً متشعب الجذور والنتائج والتأويل، وعلى هذا الأساس تتشعب علاقته بالعصر ومشاكله.
وهذه نقطة جوهرية وجديرة بالمناقشة وهي فكرة لها علاقة بآراء النقاد والشراح وبالمفاهيم النقدية التي تُفرض على النص ، فكل ناقد لديه مفاهيمه الخاصة أو مقولاته وأدواته التي يحاول أن يطبقها ، لذلك  يبدأ البحث عنها في العمل الفني أو الأدبي ، وعندما لا توجد ما يتطابق مع هذه المفاهيم في متن النص، لا يتوانى في أن يعتبر هذا العمل النصي فاشلاً أو هو بعيداً عن الحقيقة التصويرية والموضوعية . هكذا بدا لي من خلال رأي الناقد روبرتسون والشاعر ت ، س إليوت كما جاء في كتاب فكرة المسرح .أي أنهما يفرضان  المقولات النقدية  كمقياس للإبداع. والمفروض أن يكون العكس ، فالنص الإبداعي هو الذي يفرض توجهات النقد والناقد ومقولاتهم النقدية .
وبهذا فان مثل هذا النقد الفني العقلاني يضع النص تحت مقاييس وأنماط  تجعل منه معادلات وجداول بيانية، وبهذا يبتعد النقد في كونه هو ذلك التحليل أو التأويل السميائي الذي ينبع من داخل العمل الفني ـ النص ـ باعتباره عالما وكيانا مستقلا يفرض وجوده الحيوي الذي يسمح بالتأويل المضاعف.
ولهذا فإن النص هو الذي يفرض منطقه الفني الذي لا يمكن مقارنته  بمنطق أو بمقاسات الواقع القسري، ومن هنا يكون للعمل الفني زمنه الإبداعي وقانونه الخاص الذي يختلف عن قانون المنطق الواقعي ، وبالتالي فإن جوهر النقد إضافة إلى أنه جزء من المفاهيم والمقولات الحداثية  أو حتى ما بعد  الحداثة التي تعتبر كشفاً يسبق عصره  يجب أن يكون بحثاً في العمق وتأويلاً سميائياً. والشيء المهم أيضاً هو علاقة هذه المشكلة التي يعالجها النص بمدى قربها من المشكلة الأساسية لعصرنا أو عالمنا الآن.
وعندما نتناول كاتباً مثل شكسبير وشخصيةً مثل هاملت فانه من الضروري أن يكون واضحاً بأن هاملت شخصية مليئة بالشعور النبيل  والصادق وأنه ينظر إلى مشاكل مجتمعه وعالمه نظرة شاملة، فيبتعد في جوهره كبطل عن المؤلف ويتخلق من جديد كإنسان معاصر ومأزوم ، لهذا فهو لا يحلل المشكلة التي تواجهه  خارجياً وإنما يعمد الى عدم تجريدها عن مسبباتها أو محيطها ، لذا فإنه يفكر بها  كظاهرة  من بين الظاهرات المترابطة أو هي مشكلة تنبع من داخل المشكلات الأخرى التي تواجهه والتي ترتبط بهذه المشكلة أو مسبباتها، وهذا هو جوهر العقل الفلسفي الذي يملكه هاملت . ومن هنا جاءت شخصيته المترددة  والمركبة  التي تتناسب مع سيكولوجية عصرنا ولهذا السبب بالذات  فإن مسرحية هاملت  حتى الآن ما زالت تعاصرنا .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top