من فدائيي صدام إلى فدائيي المالكي..دودج: ثلاثة دوافع للعنف فـي العراق

آراء وأفكار 2013/01/26 08:00:00 م

من فدائيي صدام إلى فدائيي المالكي..دودج: ثلاثة دوافع للعنف فـي العراق

يحدد الباحث الخبير في الشؤون العراقية الكاتب توبي دودج في كتابه الجديد ثلاثة دوافع للعنف في العراق، تسير به من مرحلة فدائيي صدام إلى مرحلة فدائيي المالكي، لينتهي إلى أن العراق يتحول يوماً بعد يوم إلى سلطوية مقنعة تحت مسميات ديمقراطية يقودها رئيس الوزراء نوري المالكي.
َ بدا دودج متشائما في كتابه الجديد: Iraq: From Warto a New Authoritarianism (العراق: من الحرب إلى سلطوية جديدة). وفي محاضرة ألقاها تحدث هو نفسه عن هذا التشاؤم، بدأ بالقول:
يمثل هذا الكتاب محاولة فهمي السياسة العراقية منذ العام 2003، ويركز قسم كبير منه على ما دفع بالعراق إلى الحرب الأهلية لنقل منذ العام 2004، وقد شخصت ثلاثة دوافع وراء العنف في العراق الذي قضى على الكثير من الأبرياء.

- الدوافع الأول هو من دون أي شك السياسة الطائفية في العراق، ويتذكر العراق من محللين سياسيين وغيرهم النقاشات الطويلة في شأن دور السياسة الطائفية في العراق من دون أن ننسى طبعاً ما يمكن أن نسميه أصحاب المشاريع من الأقليات في العراق ،كالسياسيين المنفيين الذين عادوا إلى العراق بعد العام 2003، وتحديداً استخدام الهويات الطائفية والإثنية لتعبئة الجماهير للمشاركة في الانتخابات الأخيرة التي جرت في العام 2005.
- الدافع الثاني، هو انهيار الدولة العراقية في أعقاب الاجتياح، وهذا لا يعني انهيار القوى الأمنية وأجهزة الأمن والمخابرات فقط ولا حتى طرد مسؤولي البعث السابقين من قطاعات الخدمة العامة والدولة ،بل يعني تقطيع أوصال الدولة، فقد دمر 18 مبنىً حكومياً عراقياً أساسياً عندما كنت هناك في العام 2008، وقد سرقت المواد المعدنية من داخلها لدرجة أن سعر الحديد المستعمل انخفض في تركيا وإيران جارتي العراق بعد أعمال النهب والتصدير التي جرت.
- الدافع الثالث وهو الدافع الأساسي الذي دفع بالعراق إلى الحرب الأهلية، وهو النظام السياسي الذي وضع بعد العام 2003، وقد شرحت هذا الدافع بشكل كبير، وفصلت الكثير من أعمال العنف التي حدثت ، ومنها ما هو حصري، وقد وضع السياسيون العراقيون الذين كانوا منفيين سابقاً نظاماً سياسياً بدعم من الولايات المتحدة استثنى عمداً فئة كبيرة من السياسيين العراقيين، ومنهم من كانوا على علاقة بالنظام السابق في محاولة لإعادة ترتيب السياسة العراقية.
الخلاصة التي توصل إليها الكاتب متشائمة بشكل كبير وبخاصة أنه لم يتم إصلاح المرافق العامة العراقية والبنى التحتية بالرغم من فوز القائمة العراقية في الانتخابات الأخيرة في العام 2010، فقد عاد الخطاب الطائفي الذي حرك السياسة العراقية منذ العام 2003، وحتى العام 2010، يتردد على لسان رئيس الوزراء نفسه لتقوية قاعدته الانتخابية، وفي الواقع ما أعيد بناؤه في العراق هو الجيش العراقي وهو الآن يضم 200 ألف شخص أي ما يعادل 8 بالمئة من القوى العاملة في العراق، لكن في المقابل تبقى قدرة المؤسسات المدنية للعراقيين غير مناسبة، فبحسب تقديرات الأمم المتحدة في العام 2011، 83 في المئة من مياه الصرف في العراق تذهب دون معالجة و25 في المئة من العراقيين لا تتوافر لديهم مياه نظيفة، وفي العام 2011 قدر أن كل بيت عراقي يحصل على معدل سبع ساعات ونصف من الكهرباء يومياً، وقد لا يكون هذا بالأمر المهم شتاءً، لكن في الصيف يتحول العراق إلى جحيم نظراً للطقس الحار ولموجات الجفاف التي تضربه في السنوات الأخيرة، لكن بالرغم من هذا كله، أنفقت الولايات المتحدة والحكومة العراقية 200 مليار دولار في محاولة لبناء مؤسسات الدولة العراقية.
ما أريد أن أشير إليه اليوم هو تبعات بناء جيش كبير وقوي مقابل مؤسسات مدنية ضعيفة، وسوف أوضح ذلك من خلال حدث حصل نهار الخميس 20 كانون الأول  2012 عندما اقتحمت قوات الأمن منزل وزير المالية رافع العيساوي، وهو عضو في ائتلاف العراقية الذي حصل على الأكثرية في انتخابات العام 2010، في أعقاب تلك الانتخابات أفضت مفاوضات حامية جداً إلى حكومة وحدة وطنية، وأبقت رئيس الوزراء نوري المالكي في منصبه منذ العام 2006، أما العيساوي وبصفته وزيراً للمالية فهو على الأرجح من أقوى السياسيين في القائمة العراقية الذين شاركوا في الحكومة ،وقد حاول أن يدفع بنفسه خارج إطار السياسة العراقية الراهنة وأن لا يلتزم بالخطاب السياسي السائد، إذاً محاولة الاعتقال هذه فضلاً عن اتهامه بقضايا إرهاب، محاولة واضحة من المالكي لإبقائه تحت جناحه ومنعه من أن يوسع نطاق سلطته، وبعد عملية الدهم اتصل العيساوي بالمالكي ليسأله من أعطى الأوامر بهذه العملية،فلم يجب رئيس الوزراء ، ما دفع العيساوي للجوء  إلى  بيت رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي، ثم عقد مؤتمراً صحافياً قال فيه إنه سياسي لا يقبل بالخطاب السياسي الراهن وإن المالكي يسعى إلى التخلي عن شركائه وترسيخ سلطته كي يبني ديكتاتوريته، كان ذلك مزعجاً بعض الشيء وبخاصة أن هذه الحادثة تبعت مثيلتها قبل 12 شهراً وتحديداً في اليوم نفسه الذي انسحبت فيه القوات الأميركية من العراق، عندما حاصرت قوات الأمن العراقية بيت نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي بأمر من رئيس الوزراء، وقد سمح للهاشمي بالمغادرة  إلى عاصمة إقليم كردستان أربيل فيما اعتقل بعض من أفراد حمايته وعذب اثنان منهم حتى الموت واعترف الآخرون عبر التلفاز بتورطهم بأعمال إرهابية.
وأصبح الآن من الممكن أن أبرر ما سميته في كتابي نشوء سلطوية جديدة يقودها نوري المالكي الذي عين رئيساً لمجلس الوزراء في الأشهر الأولى من العام 2006، لكن السؤال لماذا عين رئيسا للوزراء؟ إنه كان يبدو رجلاً سياسياً من الطراز الأول، فقد كان الرجل الثاني في حزب الدعوة الإسلامي الذي أراد أن يعزز أصوات الشيعة في الانتخابات من دون أن يكون له أي جناح عسكري، لذلك اعتبرت الأحزاب الأخرى الحاكمة في ا لعراق أنه لا يشكل أي تهديد، لكن وبعد أن تسلم المالكي زمام السلطة في نيسان (أبريل) من العام 2006، واجه مشكلة أساسية هي عدم قدرته على الحكم، فمنذ العام 2006 اعتبر منصب رئاسة مجلس الوزراء منصباً توافقياً، وكان على المالكي أن يتفاوض مع كل من السفير الأميركي والقيادة المركزية من جهة والسياسيين العراقيين من جهة أخرى، لكن ما فعله المالكي منذ العام 2006، هو حصر السلطات في يده، وقد نجح في ذلك، فقد حصر سلطة حزب الدعوة في شخصه، ثم شرع في بناء مجموعة صغيرة من الأشخاص معظمهم من عائلته ،كابنه وصهره وعينهم في المواقع الرئيسة في الدولة في محاولة للسيطرة على المؤسسات العراقية كافة، وقد نجح في ذلك نجاحاً باهراً، وبخاصة أن منافسيه انشغلوا منذ العام 2010 في الصراع حول الطريقة الفضلى لتقويض سلطات المالكي، في تعبير آخر سعى المالكي إلى تأليف دولة ظل، فقد عين ابنه أحمد المالكي في منصب المسؤول عن مكتب رئيس الوزراء ما جعله مسؤولاً ليس عن أمن والده وحسب ،بل امتدت سلطته لتشمل الأمن في العراق ككل، وأذكر في هذا السياق حدثاً آخر حصل في آذار (مارس) عندما أرسل المالكي قوات الأمن إلى البصرة للسيطرة عليها في أعقاب أعمال شغب للقضاء ما سماه (مؤامرة) ضده، وقد تصل إلى سحب الثقة في البرلمان، وقد اعتقد المالكي أنه بذلك ينقذ العراق من حرب أهلية ويعيد الهدوء إليه، ثم سعى إلى إنشاء تحالف انتخابي لتقوية موقعه الانتخابي كرجل دولة قوي وكوطني عراقي يسعى إلى إعادة بناء الدولة وتلبية متطلبات الشعب في أعقاب الحرب الأهلية، حافظ المالكي على موقعه بعد انتخابات العام 2010 لكنه واجه تحدياً آخر مصدره تحالف (العراقية) بقيادة إياد علاوي الذي هو أيضا يسعى كي يكون وطنياً عراقياً، وأن يشكل مثل المالكي تحالفاً عابراً للطوائف، يذكر أن (العراقية) فازت بـ91 مقعداً فيما حصل المالكي على 89 مقعداً، ما حوّل تصرفات المالكي إلى تصرفات أكثر سلطوية تعبر عن استيائه من خسارته، فمن المستحيل أن يقبل بها، حتى أنه طلب إعادة فرز الأصوات في خطاب ألقاه بعد إعلان النتائج بصفته المسؤول عن القوات المسلحة العراقية ما أوصل العراق إلى استعصاء دام من آذار (مارس) 2010 حتى تشرين الأول (أكتوبر) 2010، وفيما كانت مختلف التحالفات الانتخابية تتناقش في ما بينها في كيفية خرق هذا الجمود الذي فرضه فوز (العراقية) في الانتخابات، فالدافع وراء كثافة مشاركة السكان في المناطق الواقعة شمال بغداد وشمال غرب بغداد ما بين بغداد وإقليم كردستان هو الشعور الوطني العراقي ،في تهديد مباشر للنظام السياسي الذي وضع بعد العام 2003، قابل هذا الخوف واقع آخر أوقف المفاوضات، وهو أن السياسيين العراقيين اقتنعوا بأن نوري المالكي نجح على مدى السنوات الأربع في أن يحصر السلطة في يده ويد موظفيه، في النهاية خرق الجمود في تشرين الثاني (نوفمبر) حين شكلت حكومة وحدة وطنية جديدة واتفق على عدد من البنود التي هدفت إلى وضع حد لسلطة المالكي الذي لم يسمح له بتعيين حليف له في وزارتي الدفاع والداخلية ولا باتخاذ قرارات منفردة في مجال الأمن بل إن تلك القرارات يجب أن تؤخذ بالتوافق، لكن المالكي ومنذ ذلك الحين يحاول الإطاحة بكل محاولة من محاولات الحد من سلطته، فقد رفض سلسلة من الأسماء المقترحة لتولي مناصب وزارتي الدفاع والداخلية الشاغرة، بل عين أشخاصاً ضعفاء ينضوون تحت لوائه في هذه الوزارات، فيما عين صديقاً مقرباً له في وزارة الأمن الوطني، في الواقع يمكننا القول إنه بعدما خسر انتخابات آذار (مارس) 2010، وبعدما حصر السلطات في يده من دون أن ينفذ اتفاق أربيل، أصبح أقوى من أي وقت مضى منذ العام 2006، وقد سعى إلى  تسييس القضاء لإضعاف مؤسسات الدولة كافة، في كانون الثاني (يناير) 2011، أصدر رئيس مجلس القضاء الأعلى مدحت المحمود سلسلة من القرارات في شأن هيئات عراقية مستقلة شكلتها الإدارة الأميركية لمراقبة السياسة العراقية، منها المفوضية العليا للانتخابات والبنك المركزي والمفوضية العليا لحقوق الإنسان، وضعتها تحت إمرة المالكي.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2010، وبعد حادثة العيساوي، اتهم رئيس البنك المركزي العراقي المحترم سنان الشبيبي مع نائبه بقضايا فساد، وكان الشبيبي وقتها خارج البلاد ولم يسمح له بدخولها مجدداً وإلا يتم توقيفه، حتى أنه لم يعط الفرصة للإجابة على هذه الاتهامات، وفي نيسان (أبريل) من العام 2012، أوقف رئيس المفوضية العليا للانتخابات الذي يلومه المالكي لخسارته الانتخابات في العام 2010 ووضع في السجن لمدة ثلاثة أيام بتهمة الفساد بمبلغ يقل عن ألف دولار، وقد تلقى اتصالاً في اليوم التالي لدخوله السجن من رئيس الوزراء نوري المالكي الذي قال له ان لا يد له في توقيفه وسجنه وانه سيسعى جاهداً إلى إخلائه في محاولة لتصوير الإفراج عنه على أنه هدية من المالكي.
ولم يكن حصر السلطات المدنية في يد المالكي خطراً بقدر سيطرته على القوات المسلحة والأجهزة الأمنية العراقية، أنشئ مكتب رئيس هيئة الأركان والقوات المشتركة العراقية في العام 2007 بهدف التنسيق بين القوى الأمنية والجيش والاستخبارات، وقد لاحظ المالكي أن لهذا المنصب سلطة واسعة فجمعها في مكتب القائد العام وجعلها تحت إمرته، ثم في شهر شباط (فبراير) من العام نفسه، تم تأسيس قيادة عمليات بغداد بموافقة الولايات المتحدة لتنسيق عمل الوحدات الأمنية فيها، إلا أن المالكي طبق هذا النموذج على عدة مناطق عراقية تعاني بعض التوتر، وهذا يعني أن قائداً واحداً هو المسؤول عن قوات الأمن والجيش معا وأن هذا القائد يعينه المالكي بنفسه، وهذا ما يسهم في تفكيك الجيش وعقيدته وفي إدراج معظم القادة العسكريين تحت عباءة المالكي شخصياً.
وأخيراً تدربت قوات العمليات الخاصة العراقية على يد الولايات المتحدة كي تكون من أكثر الوحدات العسكرية الفاعلة في الشرق الأوسط، وقد أعيدت إلى السلطة في نيسان (أبريل) من العام 2007، لكن المالكي أنشأ في ذلك الحين مكتباً لمكافحة الإرهاب لإدارة قوات العمليات الخاصة التي استخدمها وكأنها وحدات خاصة به، حتى أن قسماً من العراقيين أطلق عليها اسم (فدائيي المالكي) في إشارة إلى (فدائيي صدام) وإلى الخوف الذي تثيره هذه القوات في قلوب العراقيين، وقد اعتاد المالكي الكرّة مع الاستخبارات العراقية حين أقال القادة الذين دربتهم الولايات المتحدة واستبدلهم بموظفين من حزب الدعوة أو بمقربين منه، وهذا ما أعتقد أنه ينقل العراق من حرب أهلية إلى حرب لحصر السلطات في شخص المالكي. ولكن لماذا الاجتياح الأميركي في 2003 الذي هدف إلى الإطاحة بديكتاتور قد ينتهي إلى وضع مشابه لتلك الديكتاتورية تماماً؟
أعتقد أولاً أنه بعد عنف متصاعد تبعته حرب أهلية أنشأت الولايات المتحدة قوات متعددة الجنسيات لإعادة بناء القوات العراقية بشكل سريع، وكما قال جورج بوش: (كلما تقدم العراق تراجعت الولايات المتحدة)، وقد كان ذلك في الواقع وسيلة فاعلة لإعادة بناء القوات المسلحة العراقية، وقد ارتفعت موازنة وزارة الدفاع بنسبة 28 في المئة سنوياً من العام 2005 حتى العام 2009، كما قلت في البداية يملك العراق أعداداً كبيرة من القوات المسلحة ،لكنه في المقابل يعاني ضعفاً خطراً في مؤسساته المدنية، أما إذا قارنا تاريخ دول ما بعد الاستعمار وبخاصة في الشرق الأوسط يتبين أن المجتمع المدني بصفته المدافع الأول عن الديمقراطية، سيقف في وجه اتساع سلطات الجيش أو بعض الحكام الرامية إلى تقويض الديمقراطية، وبخاصة عندما يستفيدون من المؤسسات المدنية القائمة في بلادهم التي تمنحهم الخدمات التي يحتاجونها، وأكرر ما قلته في بداية المحاضرة إن هذه المؤسسات ضعيفة جداً في العراق، وبالرغم من أن الولايات المتحدة استهدفت تحسين إنتاج الكهرباء في العراق، صرفت الحكومة مليارات الدولارات لإنتاج الكهرباء، لكن مازال كل منزل عراقي يحصل على معدل كهرباء يصل إلى سبع ساعات ونصف يومياً، أما إذا أمعنت النظر في المجتمع المدني العراقي فسوف ترى مجتمعاً مقطّع الأوصال مزقته الحرب الأهلية منذ العام 2005 حتى العام 2008، لكنّ ثمة ناشطين عراقيين تحدوا الأمر الواقع إلا أنّ نهايتهم كانت الموت المحتم، كما أن هذا المجتمع المدني يعاني شرخاً طائفياً مفتعلاً، بهدف تعزيز التصويت الطائفي في الانتخابات العراقية في العام 2005، لكن إذا نظرنا أبعد من المؤسسات المدنية الضعيفة والجيش القوي والشرخ الذي يعانيه المجتمع العراقي، نرى دولة ريعية بامتياز، فبعد سقوط الدولة العراقية وتراجع صادرات النفط أسهم دافعو الضرائب الأميركيون في ضخ الأموال في العراق، وقد شهد العراقيون على ارتفاع موازنتهم من 24 مليار دولار في العام 2005 إلى 100 مليار دولار في العام 2012 ،كما أن عدد الموظفين في الدولة العراقية ازداد بشكل كبير بين العامين 2003 و2005.
إذاً ما نراه في العراق اليوم قوات مسلحة ضخمة ومتماسكة يسيطر عليها المالكي من جهة، ومؤسسات مدنية ضعيفة لا تلبي حاجات المواطنين من جهة أخرى، وسلطة ممزقة يطوقها نوري المالكي من جهة ثالثة، أما الشعب العراقي فيجمعه غضب عارم من السلطة لكنه غير قادر على تغييرها أو حتى على إصلاح الدولة، وقد أطلق دهم منزل العيساوي سلسلة من التظاهرات شمال غربي العراق، ونزل إلى الشارع 60 ألف شخص في الفلوجة وحدها قاطعين الطريق الدولية التي تصل العراق بسوريا والأردن، وقد اتهم أفراد حماية العيساوي بالارهاب واتهم العيساوي المالكي بالفساد، لكن ذلك لا يعني عودة العراق إلى الحرب الأهلية، وهذه إحدى الخلاصات الأكثر تفاؤلاً في الكتاب، فأنا أعتقد أن بناء القوات المسلحة بهذه السرعة جعل من العراق الأقوى في ضبط العنف والسيطرة على الشعب، لكن الثلاثة ملايين عراقي الذين صوتوا لصالح القائمة العراقية في  آذار (مارس) من ا لعام 2010 لاحظوا أن أصواتهم لم تؤخذ في عين الاعتبار، إذ أن معظم سياسييهم أبعدوا عن السلطة بتهم فساد أو إرهاب.
نلاحظ أن العنف في العراق يتركز على خمس محافظات ،هي بغداد وصلاح الدين وديالى والأنبار ونينوى ،وضمن هذه المحافظات الخمس يتركز العنف تحديداً في الموصل (نينوى) وبغداد وبعقوبة (ديالى) والفلوجة والرمادي (الأنبار)، ومعروف أن الموصل وبغداد هما الأكبر في العراق، فيمكننا القول إذاً إن العنف لدوافع سياسية مازال يمارس بشكل كبير فيه ،لكنه ليس منتشراً بالقدر الكافي كي يزعزع استقرار العراق.
سوف أترككم مع واقع أن العراق ينتقل بالفعل إلى سلطوية جديدة كبيرة الكلفة، فحتى اللحظة التي غادرت فيها القوات الأميركية العراق في كانون الأول 2011، كان 4500 جندي أميركي قد لاقى حتفه، فيما تفيد الإحصاءات بإن ما بين 110 آلاف و130 ألف مدني عراقي قتلوا، وأن الولايات المتحدة أنفقت حوالي 200 مليار دولار لإعادة إعمار العراق.
كل ذلك ليعود العراق مجدداً إلى سلطوية جديدة! يجب أن يطرح ذلك سؤالاً جدياً وبخاصة أن علاقة حكومة العراق بشعبها لا تبدو مختلفة كثيراً عما كانت عليه قبل 2003، فبالرغم من الانتخابات التي جرت والتغيير الحاصل في السلطة لا أرى شخصياً في نوري المالكي أي التزام لجهة نشر الديمقراطية في العراق.

 كاتب بريطاني متخصص في العلوم السياسية، يهتم بشكل أساسي بقضايا الشرق الأوسط.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top