الوقائع العراقية.. أزمة في التاريخ أم أزمة في المؤسسات؟

آراء وأفكار 2013/01/27 08:00:00 م

الوقائع العراقية.. أزمة في التاريخ أم أزمة في المؤسسات؟

باتت الوقائع السياسية العراقية أمام مفترق طرق غائمة، وأمام مسارات من الصعب معرفة حدودها، إذ أخذ  تضخم الكثير من الظواهر على حساب الواقع السياسي الهش، وسوء إدارة ظواهر أخرى توجها معقدا من الصعب ضبطه، والسيطرة على إيقاع تحولاته الطارئة والمفاجئة.. فهذه اليوميات المتلاحقة، وطبيعة ما يقترن بها من صراعات تعكس في جوهرها أزمة التاريخ وأزمة النظام السياسي وأزمة النخب السياسية والثقافية. ولعل الفشل الذي نلمس معطياته اليوم في صناعة صورة عقلانية للعراق السياسي، والصورة الرمادية للسياسي الحاكم أو السياسي البرلماني هي تأكيد على عمق الأزمة، على بشاعة تفجراتها الاجتماعية والسياسية، خاصة تلك التفجرات التي بدأت تمسّ الكثير من مناطق المسكوت عنه في العقل الجمعي العراقي والمهددة  للسلم الأهلي وللنظام السياسي، وربما مهددة للصورة المدنية للدولة العراقية الجديدة...

حديث الأزمة ليس بالضرورة حديثا عن أزمة الجماعات التي تحولت إلى ملاذات آمنة لأجندات ومصالح وسياسات تسعى إلى فرض رؤيتها السياسية على المكان العراقي والمكان الإقليمي، كما انه ليس بالضرورة حديثا عن تداعيات ما سمي بـ(الربيع العربي) الذي أسهم في إرباك المشهد السياسي العربي التقليدي، لكنه بالمقابل كان سببا   في تفجير الكثير من ثقافات العنف المدني، وصعود تيارات القوى الأصولية التي تنتمي إلى التاريخ/المتحف وليس للمستقبل، إذ وضعت هذه المعطيات الواقع السياسي عند أفق غائم لا يمكن فصله  عن طبيعة الصراعات التي بدأت وتائرها تتصاعد بشكل مخيف في المنطقة، خاصة مع التوجهات المثيرة للجدل حول (أخونة) اتجاهات الإسلام السياسي من خلال نجاح الإخوان المسلمين في مصر، والدور المتصاعد للإخوان في الأردن، وتداعيات الصراع الدموي في سوريا وغيرها من التحركات السياسية التي ترتبط بشكل أو بآخر بالسياسات الإقليمية المدعومة علنا من قبل المال السياسي في دول معروفة ،مثل تركيا وقطر والسعودية.

لا يمكن فصل ما يجري في المنطقة عن تعقيدات الحالة العراقية، ومحاولة صناعة وجه آخر للأزمة في العراق، لكن هذا لا يعني التغافل عن الوجه المحلي للأزمة، إذ كشفت التظاهرات الشعبية في العديد من المحافظات عن الصورة الملفقة للنظام السياسي والاجتماعي السائد، ولطبائع الإدارة السياسية لهذا النظام وهشاشة قدرتها  على  التعاطي مع مشكلاته وصراعاته. فالكثير من الشعارات المطروحة الآن، تكشف عن جوانب ذات مرجعيات ترتبط بأزمة التاريخ والجماعات، وفي النظر إلى السلطة/ الحكومة بوصفها القوة التي تواجه تحديات هذا الواقع وتتأثر بتأثراته، وكذلك النظر غير الواضح لهوية السلطات الأخرى التي لا يمكن فصلها عن الأزمة،  فضلا عن أن الطبيعة السياسية والشعاراتية لبعض هذه التظاهرات التي اشتبك فيها المطلبي مع السياسي مع الرمزي، خاصة الشعارات التي تدعو إلى إلغاء الدستور وإسقاط العملية السياسية..

ومهما سعت الجهات أو بعض الجماعات لتخفيف حدة هذا التمظهر، فإنها ستظل رهينة بوجود وعي نقيض، وثقافات راسبة في اللاوعي لم تتحرر بعد من عقدة الماضي ولا تملك رغبة كاملة للاندماج الحقوقي مع الواقع الجديد، الواقع المحمول على تغيرات مرعبة مست الجوهر الكينوني للنظام القديم وعلائقه وثقافاته..

ومن أخطر ما ارتبط بإشكالات الواقع الجديد يتمثل بصورة النظام المؤسساتي الهش، حيث لم تستطع هذه المؤسسات(الديمقراطية)   أن تصنع لها قوة صيانية فاعلة، ولم تستطع أيضا أن تصنع لها رأيا عاما ساندا لتوجهاتها الجديدة، فضلا عن هشاشة البنى المؤسساتية الساندة، مثل مؤسسات التعليم والاقتصاد والخدمات والثقافة. ولعل فشل المحافظات ومجالس المحافظات  يعكس صورة عدم  تقبل الحالة الجديدة بوصفها حالة إنقاذ، وحالة تحويل اجتماعي يقوم على أساس فكرة تأمين الإشباع الثقافي والإنساني والاقتصادي، وهو ما لم يحدث في الواقع، لأن التنظيم السياسي وطبيعة التنافس والصراع بين القوى السياسية في المحافظات العراقية وضعف البنى التحتية، ومظاهر الفساد السياسي والاقتصادي، وتداخل النظام السياسي مع أجندات إقليمية وقوى النظام السابق أسهمت إلى حد كبير في تعويق أي عملية حقيقية للتحول أو حتى قبوله أو إيجاد مجالات آمنة لخلق أشكال معينة للاندماج الاجتماعي السابق للاندماج السياسي..

أزمة أمن أم أزمة وعي؟!

صور الواقع تتمثل صورا متلاحقة لهذه الأزمات، لأنها أزمات وعي مستنفر وغير منتمٍ، ويحمل في هواجسه الكثير من المواقف الرافضة، التي تغذيها بالطبع هواجس عنفية  لثقافات طائفية، ومناطقية أو سياسية، مثلما تحمل في هواجسها العديد من الصور الاستعادية لشراهة  تاريخ السلطة القديمة وهويتها...وأحسب أن العمل الذي تقوم به السلطة عبر فرض الأشكال الأمنية المجردة  للسيطرة على سياق هذه الأزمات  ستكون غير فاعلة وغير ذات جدوى، أو أن علاجاتها ستكون مؤقتة، خاصة وأن الكثير من المؤسسات الأمنية ستجد نفسها أمام واقع اجتماعي مشحون بالأزمات والتحديات، وليس واقعا امنيا يتطلب الكثير من المعالجات الستراتيجية والإجراءات السريعة، ولعل بروز التظاهرات في مناطق تعد آمنة بالمعيار الأمني يؤكد أزمة الوعي  المستعاد والمستنفر وليس أزمة الأمن كضرورة لضبط الخروقات التي قد تحدث هنا أو هناك. هذه الأزمة غير الواضحة المعالم تفترض وجود معالجات أكثر فاعلية بدءا من معالجة أزمة البناء السيوثقافي لمجتمع الجماعات العراقية، وليس مجتمع الأمة العراقية التي تحدث عن عدم وجودها الملك فيصل الأول في رسالته الشهيرة، وكذلك العمل على تعزيز نظام اللامركزية بشكل أكثر مهنية وبطريقة تناسب تعقيدات النظام الاجتماعي العراقي، لأن الحديث عن العراق المركزي الواحد أصبح جزءا من الماضي، والحديث الأكثر واقعية هو العراق الموحد الذي يحافظ على حقوق جماعاته ضمن نظام إداري وحقوقي واقتصادي يكفل معطيات التحول، ويعزز فكرة قبول الآخر دون حساسيات وفوبيا رعب التقسيم...

صورة الأزمة تحولت إلى صورة مضخمة الملامح بسبب الفشل السياسي، وبسبب عدم قدرة السياسيين على تأصيل النظام السياسي والحقوقي للدولة، إذ باتت تمظهراتها حاوية على أزمات ثانوية، لكنها أكثر تعقيدا، التي تحتاج بالضرورة إلى كشوفات واضحة ومواجهات أكثر وضوحا، والى عملية فحص ومراجعة، والى شرعنة عقلانية للقيم الدستورية ليس بوصفها القوة الرمزية للقانون العام، بل بوصفها قيما حمائية للجميع، ولعدم التسبب بانفلات الصراع السياسي والاجتماعي  ليتحول إلى صراع جماعات أو حرب أهلية.

إن فكرة السيطرة على الأزمة ليست مستحيلة، بل هي مدعاة للوقوف عند أصل المشكلات التي تديم صناعة الأزمة، وتفشل في صناعة الحوار العاقل، الحوار الذي يمكنه خلق أجواء حقيقية من الثقة المدعومة بسلسلة من الإجراءات والقوانين التي يمكنها الإسهام الجاد التخفيف من الاحتقانات الوطنية، التي تتمثل   بإشاعة القيم الوطنية والحقوقية والتنموية على مستوى التنظيم الاجتماعي وعلى مستوى الحريات، وعلى مستوى شرعنة بناء الدولة المدنية التي تضمن الحقوق  العامة والخاصة بعيدا عن الإيغال في التعمية على واقعية الأزمة التي بدأت تتسع وسط العديد من الرؤى المتقاطعة والمصالح والسياسات المنفعلة وغياب المهنية في التعاطي مع واقع مهني خالص.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top