تجارب متنوعه وفهم متناقض للخطاب الجمالي والفكري

تجارب متنوعه وفهم متناقض للخطاب الجمالي والفكري

المسرح فن الجمال والتنوير كان منذ أول عرض مسرحي أضاءته نيران المشاعل على أرض اليونان مدرسة للوعي والمتعة والفكر وإحدى الوسائل التي تجمع المتلقين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم في حلقة واحدة تحيط بالخشبة وتتفاعل مع مايقدم داخل فضائها وما المهرجانات التي تقام في بلدان الوطن العربي إلا إحدى الطرق التي يتم من خلالها الاحتفاء بالمسرح وهي في ذات الوقت فرصة للتعرف والاطلاع على طبيعة التجارب المسرحية وتوجهاتها وأساليب العمل لدى طاقمها الفني وآلية الاشتغال التي يعتمدها مخرجو العروض المسرحية في التعامل مع الحديث والمبتكر في الظاهرة المسرحية التي عرف بأنها متجدده ومتغيره لا ثبات فيها ولا سكون بل بحث واكتشاف وتجريب, وفي مهرجان المسرح العربي الخامس الذي أقامته الهيئة العربية للمسرح في الدوحة من الفترة 10 كانون الثاني لغاية 15 من العام 2013 والذي خصصت جائزته الكبرى لأفضل عرض مسرحي عربي يشارك في المسابقة الرسمية التي أعلنت عنها الهيئة العربية للمسرح, كان بإمكان المتلقي والمتابع للحركة المسرحية في الوطن العربي أن يطلع على التجارب المقدمة ويتعرف على المستوى الفني والجمالي والفكري للمسرح في البلدان المشاركة في المهرجان، ولكي نستطيع أن نكوّن فكرة عن تلك المستويات في العروض سوف نقوم بتسليط الضوء عليها وهي كما يأتي:

العرض الأخير وهو من إنتاج وتقديم فرقة السعيد للإنتاج الفني في قطر ومن تأليف فهد ردة الحارثي وإخراج فالح فايز. جاء هذا العرض فضفاضاً في توظيف الديكور الى تناوب الشخصيات على تمثيل أكثر من شخصية الى وجود خطابات مباشرة ولم يخرج هذا العرض المسرحي عن العروض التقليدية فكل ما فيه متوقع ورتيب ومباشر في خطابه الفكري والانتقال الى جمع السلطة وخيوطها في يد واحدة إشارة الى الفردية والصوت الواحد وتحكّمه في مصائر الآخرين من خلال فرقة مسرحية.
مندلي . وهو من إنتاج وتقديم فرقة الجيل الواعي وإخراج عبد الله التركماني، وقد أشار فولدر العرض الى أن التأليف لجواد الأسدي في حين أن العمل مأخوذ من نص للكاتب بوشنر وقد أجرى الأسدي بعض التغييرات في البناء النصي للمسرحية لاسيما تغيير اسم البطل مندلي وهي منطقة من مناطق العراق ويبدو أن هذا العرض قد وقع في إشكالية كبيرة إذ أنه ابتدأ بحكاية أوروبية فالبطلة ماريا وهي زوجة لجندي يعاني من خضوعه للسلطة العسكرية التي تقمعه وتضطهده سلطة نازية قاسية وموتيف الشباك في ديكور المنزل يدلل على ذلك، فقد كانت إشاراته واضحة للمتلقي، النصف الأول من العرض  كان يغرد في وادٍ والنصف الثاني، وبقدرة قادر، غرد في وادٍ آخر  وبعد أن كانت الموسيقى أوروبية مسجلة تحولت الى موسيقى عراقية وحية على خشبة المسرح وتحول الجنود وقائدهم الى كاريكاتورات مضحكة وسمجة وانحرف العرض عن مساره والحكاية عن أصولها وصرنا ننظر الى حالة من التأليب والاستعداء على قطر عربي وتذكير بحرب لا بد أن تطوى صفحاتها وبدلاً من أن يرتقي العرض جمالياً وإنسانياً ،والمسرح فن الجمال وفن المتعة والرقي، تحول العرض الى أداة للتحريض والنبش وإشاعة البغضاء إضافة الى رتابته وثرثرة ديكوره .
مسرحية إنفلات وهي من إنتاج وتقديم فرقة سبيس للإنتاج ـ  تونس تأليف وأخراج وليد الدغسني، جاء هذا العرض الذي جسد أحداثه رجل وامرأه، حيوياً متدفقا، حكى عن الخوف والثورة وما حدث في تونس من ثورة شعبية ادت الى التغيير والإزاحة والتي إنعكست على طبيعة العلاقة ما بين الإثنين، التكرار في ذات الموضوعة والدوران في ذات الحال داخل فضاء مجرد من اي شيء إلا بعض المفردات الديكورية المتحركة.
مسرحية باسبورت للفرقة الوطنية للتمثيل في العراق.. وهي من تأليف حيدر جمعة وإخراج علاء قحطان، ويتحدث العرض عن شباب يحلم بالمغادرة بعيداً عن الموت اليومي المجانيّ الذي يعبث بأحلامهم لكن حدوث انفجار داخل المحطة يحرمهم حتى من الحلم فكأن القدر يسخر منهم حين يضع بينهم أحد الارهابيين الذي يسعى لتفجير نفسه كي يحظى بالبركة انه الصراع داخل الأرض العراقية بين المحرمات والتابوات التي أوجدها المحتل وبين شباب يسعى لكي يعيش كما يحلم في بلده من دون ضغائن وخوف، الاشتغال داخل الفضاء وتوظيف لحظات الصمت جاء معبراً عن حالة الخوف والانقطاع ما بين الواحد والآخر برغم انتمائهم لوطن واحد إلاّ أن الإرباك الذي طرأ على الإضاءة المسرحية التي هي جزء من منظومة.  
مسرحية الدكتاتور تقديم وإنتاج فرقة بيروت  30 / 8 في لبنان تأليف عصام محفوظ وسينوغرافيا وإخراج لينا أبيض هذا العرض هو تعرية لصورة الدكتاتور الذي يعتقد أن على الجميع أن يكون خاضعاً له مؤمناً به صامتاً إزاءه، باعتباره المخلّص للبشرية والمغير للعالم, هو عرض كروتسكي أنيق في صياغة فضائه مستوفٍ لشروط اللعبة المسرحية، إعتمدت المخرجة فيه على أداء متميز ودربه ماهرة لممثلتين رائعتين تنقلتا بين حالات وتحولات سايكولوجية وإنفعالية وتصويرية مدهشة بطريقة كوميدية بعيداً عن المباشرة والنبرة الخطابية قريباً من روح الإنسان في مخاطبة العقل والوجدان.
تمارين التسامح لفرقة نحن نلعب للفنون من المغرب العرض المسرحي نص وأشعارعبد اللطيف اللعبي. دراماتورجيا وإخراج محمود المشاهدي. جمع العرض بين الرقص والشعر والموسيقى من خلال شخصيات تتحرك داخل فضاء العرض لتقديم لوحات درامية وتدخل في مشاركة مع الجمهور حول الواقع السياسي والاجتماعي للحياة العربية تحت ظل كل تلك الانتفاضات التي تدعو لربيع عربي يطيح بالتسلط ويدعو الى الحرية. برغم حيوية الممثلين ومهاراتهم إلاّ أن وجود الديكور المتحرك أدخلنا هو الآخر في لعبة معروفة مسبقاً في تحولاتها.
صهيل الطين.. وهذا العرض من إنتاج وتقديم مسرح الشارقة الوطني في دولة الإمارات العربية، التأليف للكاتب إسماعيل عبدالله والإخراج وتصميم السينوغرافيا لمحمد العامري، في هذا العرض كانت السينوغرافيا غالبة إلاّ أنها كانت فائضة ومعيقة ضيّقت المكان، والمكان سلطة لابد من التعامل معها على  وفق هذا الأساس، سلاسل تتدلى في مقدمة الخشبة وسلم كبير يبسط هيمنته وفرن قرب كتلة السلم وعلى الجانب الآخر كرسي السلطة ومن خلفه خيال الظل ومجموعة من الأعضاء البشرية متناثرة على السلم في أشكال وتكوينات، إضافة الى وجود شخصيات في تكوينات متحركة على خشبة المسرح والكل مغمور بالطين إذ أن هذه الأشكال والتكوينات ما هي إلاّ مخلوقات وتماثيل الخالق المثال التي تأتمر بأمره وتدين له بالولاء، وابنة تحاول أن تجد حلمها من دون علم الأب كي تجد من خلال الحلم حريتها. النص نثري فيه  الكثير من الصور الشعرية وفيه الكثير من السرد أيضاً، تمت الاستعانة في البداية بالعرض السينمائي الذي جاء بعيداً عن النسيج العام لمنظومة العرض المسرحي والذي كان ملمحاً أولياً سرعان ما غادرنا لنبقى مع فضاء مزدحم وممثلين يؤدون باليه رتيبة وممثلة حفظت الحوار من دون الاحساس به.
مسرحية ياما كان لفرقة مسرح البيت تونس / لبنان تأليف يارا أبو حيدر، فكرة وإخراج وحيد العجمي, تدور حكاية العرض حول البيت وكيفية حمايته، وفي الوقت الذي يصطرع فيه أفراد الأسرة الواحدة ويتبادلون الحكايات والخلافات يكون الآخر قد وصل واحتل البيت وما عليهم سوى حمل ما تبقى لهم والمغادرة, يبدأ العرض من داخل الصالة وصولاً الى فضاء الخشبة فكأن الآخر واحد من المتلقين في الصالة يهدد الممثلين الذين عمدوا الى الصراخ منذ لحظات العرض الأولى ثم عادوا الى فضاء الخشبة ليدخلوا في لوحات تتركب مع تركيب مفردات الديكور ولحظة التقاط الصورة الفوتوغرافية في لحظة فكرة وتوقف عن نبش الخلافات والترصد، أحدهم للاخر.
إمرأة من ورق.. العرض المسرحي من إنتاج وتقديم المسرح الوطني الجزائري تأليف واسيني الأعرج إعداد مراد السنوسي إخراج صونيا، حين يخلق الكاتب شخصية خيالية كبطلة لأعماله تكون الأمور طبيعية لكن حين تتحول تلك الشخصية المتخيلة لدى زوجة الكاتب الى كائن حي يشاركها حب الزوج وحياته فذلك أمر لا يمكن الصبر عليه، هذا ما يلخص الحكاية التي تحولت عند قراءتها المسرحية الى خطاب مباشر سياسي فيه استحضار لشخصيات في الذاكرة الجمعية الجزائرية، فيه خصوصية مادار في الحياة الجزائرية في المشهد المسرحي الثقافي في الجزائر، بدأ العرض من خلال الستارة الشفافة والأوراق المتدلية والمرأة الحلم كما لو كان عرضاً رومانسياً إلاّ أنه تحول الى خطاب ثوري تحريضي أبعدنا عن الحكاية.
مما تقدم نخلص الى أن المسرح في الوطن العربي متنوع في تجاربه المسرحية فهناك من يتعامل برؤى متقدمه وحداثوية، ومنهم من مازال يعوم عند حدود التقليدي والنمطي أو الذي يبحر في غمار التجريب وهو لما يزل غير مدرك وواع لطبيعة التجريب وخطورته, المسرح خطاب معرفي يعلم وينور ويوعي ويشيع روح المتعة ويرقى بالذائقة الجمالية للمتلقي، لذا كان لزاماً على من يعمل داخل فضاءاته أن يكون عالماً وعارفاً ومسؤولاً اجتماعياً ووطنياً لأنه ومن خلال فضاء المسرح يبث نور الحكمة والمعرفة .
* كاتبة ومخرجة مسرحية

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top