(1-4)
توطئة
تتعدد مسميات ما حدث في 9/4/2003 بحسب الأهواء السياسية بين:سقوط،تحرير،غزو،احتلال...وهي أمور لا تعنينا نحن المتخصصين بعلم النفس الاجتماعي والسياسي بقدر ما يعنينا استخلاص دروس علمية من هذا الحدث الأكبر،في مجالات العلوم والمعرفة المختلفة : السياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية والدينية والثقافية والأخلاقية،على صعيد الفرد بوصفه إنسانا والجماعات والمجتمع والسلطة ..والعلاقات التي تحكم هذه الأطراف ، وكيف تنشأ الصراعات والى ماذا تفضي ، والعنف والضغوط النفسية وقوة تحمل الشخصية.. وما إلى ذلك من أمور من قبيل ما يحصل للقيم والنسيج الاجتماعي من تخلخل أو انهيار كالذي حصل لقيمة الحياة التي كانت مقدسة في المجتمع العراقي ،وانتهكت بعد هذه الأحداث واسترخصت لدرجة أن عدد الضحايا الأبرياء بلغ الآلاف في الشهر الواحد بين عامي 2005 و2007 ،وتزايد التفجيرات بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2013،وقيام التظاهرات التي بدأت في الأنبار والموصل وسامراء..نهاية عام 2012 واستمرارها في الأشهر الأولى من عام 2013،وتأزم العلاقات بين الكتل السياسية ،حتى بات الوضع ينذر بكوارث جديدة مع أن عشر سنوات كانت تكفي لقيام دولة مؤسسات مدنية وبناء عراق جديد يمتلك كل مقومات الرفاهية. وكانت أوجع الكوارث الاجتماعية:تهرؤ الضمير والأخلاق وشيوع الفساد والتعامل معه بوصفه شطارة وليس خزيا،وإسقاط قدسية "النضال" عن الذين كانوا في "المعارضة"وتولوا السلطة،وسقوط هيبة السياسي من الاعتبار الاجتماعي بعد أن تبين أن معظم الذين جاءت بهم أمريكا إلى السلطة والذين جاءت بهم الجماهير المخدّر وعيها بـ"أفيون" الطائفية والعشائرية إلى البرلمان ،قد خذلوا الناس وتركوا ربع الشعب تحت خط الفقر فيما هم اشتروا البيوت الفاخرة والفلل الخرافية في عواصم عربية وأجنبية ومدن سياحية مثل اسطنبول وشرم الشيخ.
إن علماء النفس في البلدان المتقدمة يعمدون إلى إجراء التجارب على الفئران في المختبر لمعرفة كيف تتصرف حين تعرّض إلى موقف ضاغط لنستفيد من نتيجة التجربة فيما لو تعرض الإنسان إلى موقف مماثل .وقد يجرون أحيانا تجربة على إنسان أو مجموعة من أفراد (ضمن حدود الأخلاق ) ليعرفوا مدى قدرتهم على تحمل ضغط معين مثلا .
وما حصل بعد 9 / 4 / 2003 أن العراق صار بكامل أرضه مختبرا لإجراء تجارب ميدانية فريدة من نوعها على 30 مليونا من البشر، من كل الأعمار وكل المتغيرات الاجتماعية والثقافية والنفسية...لا يمكن تأمين مواصفاتها في مختبر حتى على الفئران . وكان على علماء النفس والاجتماع – لاسيما المتخصصين منهم في علم النفس والاجتماع السياسي – دراسة ما يحصل للطبيعة البشرية والمجتمع ،ليس فقط في ظروف حرب شاملة بأسلحة تدميرية هائلة ليس في مفردات قاموسها "احترام قيمة الحياة"، إنما أيضا ما ينجم عنها من ضحايا وهجرة وتهجير وفقر وبطالة وتفكك أسري وتعصب بأنواعه، وصراعات على المصالح والهويات ،وعنف وقتل في مشاهد لا يستوعبها عقل ولا يهضمها منطق .
في الآتي دروس لا يدعي الباحث أنها مستوفية لشروط البحث العلمي،لكنه عايش الأحداث من بداية وقوعها إلى أطول خميس في حياة العراقيين(20 آذار – مارس 2003) الذي أطلق على بغداد في ليلته (72)صاروخا من نوع كروز شاركت في إطلاقها غواصة بريطانية..وكانت ليلة مرعبه..رهيبة ..لن ينساها من عاشها،إلى يوم نهبت المؤسسات المحيطة بسكن الباحث :وزارة العدل، الإذاعة والتلفزيون،المتحف العراقي، وزارة الإعلام..وصولا إلى تظاهرات 2013 وما نجم عنها من تحولات إيجابية (توحّد سنّي شيعي ضد الطائفية) وأخرى سلبية ملغومة بالشر للعراق والعراقيين. وكان الباحث في هذه الأحداث أشبه بفأر التجارب..لكنه كان الباحث والمبحوث في آن معا.ولأن لديه خبرة جامعية وبحثية تزيد على ربع قرن،فإن لديه ظناً بنفسه أنه قادر على استخلاص (نظريات أو فرضيات)علمية ترقى إلى أن تقدم لعلماء النفس والاجتماع في العالم العربي بشكل خاص والجامعات ومراكز البحوث العالمية،لدراستها واعتمادها في أدبياتهم بوصفها إضافة معرفية جديدة من باحث عراقي..فنحن اعتدنا قبول فرضيات أو نظريات تأتينا من باحثين أجانب فيما نستكثر أو لا نكترث بما يقدمه العقل العراقي..ليس على صعيد السلطة فحسب،بل وأهل الصنعة أيضا.
فضلا عن أن هذه الدروس تتضمن أفكارا وتحليلات جديرة بأن يتناولها الباحثون بالنقد والتحليل الأعمق والأشمل( وحبذا لو تتبناها جامعة عراقية ) لتشكل وثيقة علمية تؤرخ،اجتماعيا ونفسيا وسياسيا، لواحدة من أصعب المراحل التي مرّ بها العراق في تاريخه الذي ينفرد به ليس فقط بمنجزاته الحضارية إنما في حروبه وفواجعه،وأزماته التي شغلت الناس والسلطة عن العلم والعلماء.
الدرس الأول: الحاجة إلى البقاء
ما حدث في المجتمع العراقي بعد 9 نيسان /أبريل 2003 يقدم لنا فرضية نفسية عن الطبيعة البشرية نصوغها على النحو الآتي :
" إذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى ..شاع الخوف بين الناس وتفرقوا إلى مجاميع أو أفراد تتحكم بسلوكهم الحاجة إلى البقاء..تضطرهم أن يلجأوا إلى مصدر قوة أو جماعة تحميهم ، ويحصل بينهما ما يشبه العقد ، يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة ".
كان هذا هو التحوّل السيكولوجي الأول الذي حصل للعراقيين بعيد مزاج الفرح الذي شاع بين معظمهم بالخلاص من الدكتاتورية. وكان شيئا أشبه بالخيال أن يستيقظ العراقيون صباح التاسع من نيسان وقد وجدوا أنفسهم أنهم تخلصوا من كابوس رهيب جثم على صدورهم أكثر من ربع قرن . والكل يتذكر ذاك الرجل الذي مسك صورة صدام صباح ذلك اليوم وهو يضربها "بالنعال" ويخاطب العالم بانفعال :ياناس ياعالم هذا مجرم دمّر العراق وقتل العراقيين، وأوصل رسالة عفوية –للعرب بشكل خاص –أنهم لم يدركوا بشاعة ما جرى للعراقيين على يديه .
كان فرح العراقيين معجونا بدهشة أن ما حصل يصعب تصديقه .فللمرة الأولى في تاريخهم يفرح العراقيون بالقضاء على حاكم دمّر وطنهم وأذلّهم وقتل أبناءهم في حروب حمقاء وفي سجون مظلمة وفي الشوارع بوضح النهار .وكان هو الحاكم العراقي الوحيد في تاريخ العراق الذي سجل أعلى الأرقام في ترميل النساء وتيتيم الأطفال وفي جعل المهندسين خريجي الجامعات يبيعون (اللبلبي)في الشتاء و(الموطة ) في الصيف في صنعاء وعمان وهم أبناء أغنى بلد في العالم!.
غير أن مزاج الفرح هذا لم يدم سوى أيام .لم يعلم العراقيون حينها أن الذي سقط ليس نظام صدام حسين فقط إنما الهوس الأمريكي أسقط الدولة بكاملها .
ويعلمنا الدرس أن خيمة الدولة إذا سقطت (حتى إذا كان نظام الحكم فيها دكتاتوريا ) ولا توجد خيمة أخرى تجمع أهل الوطن فإن الناس يصابون بالذعر مدفوعين بـ " الحاجة إلى البقاء " فيتفرّقون بين من يلجأ إلى عشيرة أو مرجعية دينية، أو تجمع مديني أو سكني، أو تشكيلات سياسية أو كتل بأية صفة كانت.وهذه خاصية يشترك بها مع الحيوان أيضا حين يتعرض إلى خطر فيهرب إلى مكان يؤويه مدفوعا بالحاجة إلى البقاء.ولدى العراقيين مثل يضربونه على تصرف الناس حين يداهمهم خطر لا يقدرون عليه فيفرون :"كلمن يقول ياروحي".
والذي زاد من مشاعر الخوف بين الناس، وتوزعهم على مرجعيات اجتماعية وقومية ودينية لا حصر لها، أن مزاج الفرح بسقوط الدكتاتورية امتزج بمشاعر الألم والمرارة التي تدمي القلب بتعرض بغداد إلى النهب والسلب وحرق مؤسسات الدولة بشكل لم تشهد له مثيلا في أحداث تاريخ نهبها التي زادت عن العشرين. وكان أن اتسعت الكارثة بشكل جنوني لدرجة أن الوطن كلّه صار ينهب من قبل أهله!*.
من هنا بدأت " ثقافة الاحتماء " وحصل تحوّل سيكولوجي خطير، هو أن الشعور بالانتماء صار إلى المصدر أو القوة التي تحمي الفرد، فيما تعطّل الشعور بالانتماء إلى العراق وتحول إلى ولاءات لا تحصى.
ومما سهّل على العراقيين التخلي عن انتمائهم إلى العراق، هو أن النظام السابق ساوى في الانتماء بين العراق ــ الوطن ، ورئيس النظام ( صدام حسين هو العراق ). وثقّف الناس على مدى ربع قرن عبر قنواته الإعلامية ومؤسساته التربوية والكوادر الحزبية بهذه المعادلة التي تختزل وطنا بحضارات عريقة وشعبا بقوميات وتنوعات مختلفة في شخص رجل واحد..وانه عندما سقط رئيس النظام واختبأ في حفرة تحت الأرض، انهارت تلك المعادلة نفسيا"، فتوزع الــ " 30 " مليون عراقي إلى ما قد يزيد على المليون انتماء.
ولعل الدرس البليغ هنا هو أن الدكتاتور أو الطاغية أو الحاكم الذي يكرهه شعبه ، إذا أطيح به من قبل قوة خارجية ولم يطح به أهله ،فان الناس يفتقدون " البطل " الوطني الذي تطمئن إليه قلوبهم ويمنحهم الشعور بالأمان ، فيما يتملكهم الشعور بالخوف وتزايد القلق بعد صحوتهم من فرحة الخلاص من جلاّدهم التي "جادت " بها عليهم القوة الأجنبية ، فيتفرقون ويصيرون أمام واقع نفسي جديد، هو:
(إن الولاءات المتعددة في المجتمع الواحد ، الذي ينهار فيه انتماء يوحّده طوعا" أو قسرا" يفضي إلى أن تتصارع في ما بينها على السلطة ، حين لم يعد هناك دولة أو نظام.)
• بوصفي شاهد عيان، فإن مؤسسات الدولة تعرضت للنهب في 8/ نيسان / 2003 وليس التاسع منه. ففي صباح ذلك اليوم كنت أرى ،من شباك شقتي بشارع حيفا أربع دبابات أمريكية تربض في الصالحية بجوار تمثال الملك فيصل الأول، وجرى نهب ممتلكات وزارة العدل التي لا يفصلها عن هذه الدبابات سوى رصيف الشارع. .على مرأى و" تشجيع " من الجنود الأمريكان . فيما بدأت الحرائق في بغداد في 12 نيسان 2003، إذ شهدت اشتعال النار في الطابق العلوي من بناية البنك المركزي العراقي، وفي الركن الأيسر الأرضي من مبنى وزارة العدل ، وفي مبنى الإذاعة والتلفزيون ومبنى وزارة الإعلام. وكنت أرى من على سطح العمارة التي أسكنها في شارع حيفا، الحرائق حيثما أدرت وجهي في سماء بغداد.
*رئيس الجمعية النفسية العراقية
اترك تعليقك